اتسمت خطبة الصديقة الزهراء (عليها السلام) بكونها خطبة شاملة كاملة، رسمت فيها خلاصة ملامح الرسالة المحمدية من نذر للمسلمين، وبشارة للمؤمنين، وواحدة من النذر التي تكلمت عنها السيدة (عليها السلام) هو خطورة ما وصل إليه المسلمين من الاتصاف بالكذب والتكذيب.
فلو تأملنا في كتاب الله لوجدنا إن سنة التكذيب جارية في كل أقوام الرسل، كما في قوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا}(النبأ:٢٨)، فأصل التكذيب والكذب حاصل في آيات الله تعالى.
مصاديق الآيات الإلهية والتكذيب بها
الأولى:- آيات تكوينية التي أعلى مصاديقها هم الحجج الإلهيين من رسل وأنبياء وأوصياء وأئمة، ثم كل مخلوق ناطق وغير ناطق غير النفس الإنسانية، فهي آية لها دلالة على خالقها، كما في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...}(فصلت:٣٥).
والسيدة (عليها السلام) كانت تجسد الوجود المعنوي للنبي الخاتم (صل الله عليه وآله) فهي -كما وصفها- "بضعته"، "وروحه"، فقولها وفعلها حجة على كل المسلمين، كما صرحت هي (عليها السلام) في بداية خطبتها: [أيُّها النّاسُ! اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْغَلُ ما أفْعَلُ شَطَطاً](١).
الثانية:- آيات تدوينية: تشمل الرسالات والكتب السماوية، والتكذيب بها يكون بعدم العمل بما جاء بها، من أوامر ونواهي، وقد صدر هذا الأمر من المسلمين -إلا مما ندر ممن آمن وصدق- وذلك بنص قولها(عليها السلام): [أيُهَا الْمُسْلِمونَ أ اُغْلَبُ عَلى ارْثِيَهْ يَا ابْنَ أبي قُحافَةَ! أفي كِتابِ اللّهِ أنْ تَرِثَ أباكَ، وِلا أرِثَ أبي؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيًّا}، أَفَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتابَ اللّهِ، وَنَبَذْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، إذْ يَقُولُ: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ}،...](١) إلى آخر الآيات التي استشهدت بها صلوات الله عليها لما حصل من تكذيب لآيات الذكر الحكيم.
أثار الكذب والتكذيب بالرسل والرسالات على عقيدة المسلم
اولاً: انتفاء الايمان، قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}(النحل:١٠٥)، وعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «إن الكذب هو خراب الإيمان»(٢)، فالإيمان هو التصديق بالحجج الإلهيين، وتجلي هذا التصديق بطاعتهم والانقياد والتسليم لهم وبالعمل بتلك الرسالات والشرائع، بالنتيجة الكذب خلاف الصدق كما أن يأتي الناس بما لم ينزله تعالى من أحكام، والتكذيب خلاف التصديق، كما في عدم الامتثال لأحكام الله تعالى.
وفي قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}(يونس: ٣٩)، نجد إن مفتاح من مفاتيح شخصية الكاذب هي عدم الاحاطة والعلم والمعرفة بالرسل من خلال الرسالات فيقع بفتنة التكذيب، ولهذا السيدة (عليها السلام) نفت عنهم العلم، لما خاطبت المسلمين بقولها: [وَأطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه {إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ}..](١).
وكذلك في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ}(الأعراف:١٤٦)، فالتكبر يجعل المُكذب يضع نفسه بموضع يرى أنه أكبر من الحقائق، فيستعلي عليها، لا يخضع لها؛ فيصغر بعينه الحق فيراه غياً فلا يسير وفقه، ويرى الباطل كبير فيعظم في نفسه فيراه سبيل رشدا فيتخذه طريقا!
وهذا ما وقع به المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) إذ تكبروا على ما أتى في كتاب الله من حكم لأنه لم يكن موافقا لمصالحهم، فنسبوا لنبيهم حديث لا يوافق ما في كتاب الله وعملوا به، فكان رد السيدة بقولها (عليها السلام): [سُبْحانَ اللهِ! ما كانَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآلهِ) عَنْ كِتابِ الله صادِفاً، وَلا لِأَحْكامِهِ مُخالِفاً، بَلْ كانَ يَتَّبعُ أَثَرَهُ، وَيَقْفُو سُورَهُ، أَفَتَجْمَعُونَ إلى الْغَدْرِ اْغتِلالاً عَلَيْهِ بِالزُّورِ؛ وَهذا بَعْدَ وَفاتِهِ شَبِيهٌ بِما بُغِيَ لَهُ مِنَ الْغَوائِلِ فِي حَياتِهِ، هذا كِتابُ اللهِ حَكَماً عَدْلاً، وَناطِقاً فَصْلاً، يَقُولُ: {يَرِثُني وَيَرِثُ مَنْ آلِ يَعْقوبَ}،{وَوَرِثَ سُلَيْمانَ داوُدَ} فَبَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ فيما وَزَّعَ عَلَيْهِ مِنَ الأَقْساطِ، وَشَرَّعَ مِنَ الفَرايِضِ وَالميراثِ، وَأَباحَ مِنْ حَظَّ الذُّكْرانِ وَالإِناثِ ما أَزاحَ عِلَّةَ المُبْطِلينَ، وأَزالَ التَّظَنّي وَالشُّبُهاتِ في الغابِرينَ، كَلاّ {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُم أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَميلٌ وَاللهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفونَ}](١).
فأن تكون الحقائق واضحة أمام الإنسان ولكن لا يراها، إنما [لعمى في البصيرة] قد أصابه، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ}(الاعراف:٦٤) أي ينظر لكل ما حوله بمقاييس الهوى، فيراه هدى.
ثانياً: الطبع على القلب، إذ القلب هو مركز الانجذاب للحق والتفاعل معه، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} (الأعراف:١٠١)، فالذي يكذب بالآيات السابقة هو يسلب التوفيق فلا يصدق بالآيات الحقة، فيطبع على قلبه فيموت كافرا.
وكما صرحت الصديقة (عليها السلام) بقولها: [ابْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، {ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالْكافِرِينَ}، فَهَيْهاتَ مِنْكُمْ، وَكَيْفَ بِكُمْ، وَأَنَى تُؤْفَكُونَ؟ وَكِتابُ اللّه بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أُمُورُهُ ظاهِرَةٌ، وَأَحْكامُهُ زاهِرَةٌ، وَأَعْلامُهُ باهِرَةٌ، وَزَواجِرُهُ لائِحَةٌ، وَأوامِرُهُ واضِحَةٌ، قَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ،...](١).
فالذين يكذبون بالآيات اللاحقة إنما هو انكشاف لعدم صدق وحقيقة إيمانهم بالآيات السابقة، فيغلق فعلهم هذا كل نافذة خير في وجودهم ويميتها، لأنهم اختاروا فك الارتباط بشجرة الخير، فيُصبح وجودهم كله شر وسوء، كما قال تعالى: {سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ}(الأعراف:١٧٧)، فهم قد وضعوا أنفسهم في غير موضعها، وكما في قوله تعالى: {... الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ}(الأنبياء: ٧٧)، فعن أمير الكلام (عليه السلام)إنه قال: «لا سوء أسوأ من الكذب»(٣).
ثالثاً: النفاق، كما في قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} (التوبة:٧٧)، وعن الامام علي (عليه السلام) قال: «الكذب يؤدي إلى النفاق»(٤)، والصديقة (عليها السلام) قالت واصفة لحالهم: [فَلَمَّا اخْتارَ اللّهُ لِنَبِيِّهِ دارَ أنْبِيائِهِ وَمَأْوى أصْفِيائِهِ، ظَهَرَ فيكُمْ حَسيكَةُ النِّفاقِ](١).
انتماء وامتداد
بقدر ما نفتخر بالانتماء للصديقة (عليها السلام)، نطالع آثارها، نعرف مقاماتها ونتتبع أدوارها، بقدر ما هي منهج علينا أن نكون تُرجمانه في حياتنا، نعم هي (عليها السلام) كانت آية ونِعمة كَذب بها الجاحدين، ولكنها بالمقابل كانت نموذج للتصديق والإيمان بالآيات الإلهية، وقاطعة لكل حبائل كذب وافتراء المنقلبين.
فهي (عليها السلام) تعلمنا كيف نكون من المؤمنين والشاكرين لآيات الله وحججه، بوجوب تحقيق الإيمان بهم النابع عن عقيدة راسخة وسليمة، كي لا نكون عرضة لتزلزل أو شك في عقيدتنا أو انتمائنا؛ إذا ما عرضت أمامنا شبهة او كذب، كما حصل مع كثير من المسلمين.
ولأنها(عليها السلام) كانت مصداق لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ}(الأنعام: ٣٤)، علينا أن نكون كذلك؛ فإن التصديق يستدعي الصبر كما جرت سنة الله تعالى مع أولياءه وعباده السابقين؛ إذ صبروا وثبتوا على ما يَحملون من حق وإن كذبوا وأوذوا، لأنهم من أهل الإيقان بأن لا مبدل لكلمات الله تعالى.
وبذلك نتمكن أن نحقق شيء من الامتداد بعد الانتماء، فنصبح شعاعا فاطميا وزهرائيا قاطعا لحبائلِ الكذب في النفس فلا يكون الحق ضعيفاً او منهزماً في داخلنا، بل عزيزاً محبوباً فينا، ومن الغير -بقدر المستطاع والمتاح- فنرشدهم ونُبين لهم الصدق ونبصرهم ما هو الحق.
__________
(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج ٢٩، ص(٢٢٠-٢٣٠).
(٢) ميزان الحكمة : ج ٣، ص٢٦٧٤.
(٣) نفس المصدر: ج ٣، ص ٢٦٧٣.
(٤) نفس المصدر: ج ٣، ص ٢٦٧٧.
اضافةتعليق
التعليقات