هل يمكن فهم المشاعر وسُبل إدارتها وفق ثقافتنا الإسلامية؟، هل للعواطف دور في إنجاح مسيرة حياتنا التكاملية؟، هل يمكن أن نتعرف على مقومات الذكاء العاطفي من رموزنا الدينية؟.
هذه الأسئلة وغيرها يمكن أن نحصل على إجابة لها من التأمل في خواتيم هذه الآيات {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(١١)أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكن لَا يَشْعُرُونَ(١٣)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}(البقرة:١٣).
إذ نجد ظاهر معنى مفردتي (لا يشعرون) و(لا يعلمون) أن هؤلاء ليسوا من أهل الإدراك لما تنهاهم الآيات عنه، ولكن هناك اختلاف في منبع الإدراك؛ فالأول كان فعل الإفساد، والثاني عدم تحقيق الإيمان -وكما هو معلوم- إن الإيمان أمر عقائدي مرتبط بالفكر والعقل، أما الإفساد فهو أمر سلوكي؛ فتعبير(لا يشعرون) إشارة لنفي إدارة المشاعر والتحكم بها مع ما يتوافق مع الفطرة، مما جعلهم لا يدركون قبح أفعالهم الإفسادية، بل وجعلهم يرون أنفسهم مصلحين!.
وفي قوله تعالى: {...وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}(الحجرات :7)، نجد تأكيد على أثر المشاعر ببلوغ الرشاد. ومن هنا نفهم ما للمشاعر من دور في حركة الإنسان، وهو ما يُصطلح عليه في علم النفس "الذكاء العاطفي"، إذ يُعرف بأنه: "القدرة على التعرف على شعورنا الشخصي وشعور الآخرين، وذلك لتحفيز أنفسنا، ولإدارة عاطفتنا بشكل سليم في علاقتنا مع الآخرين"(١).
أما الرمز فهو الصديقة الزهراء(عليها السلام) إذ سنتعرف على مقومات الذكاء العاطفي بفقرات من خطبتها، والتي -كما يذكر- إنها خمسة(٢):
المقوم الأول: الوعي الذاتي
هو مقوم معرفة النفس والمشاعر التي تغلب على صاحبها في ردود الأفعال، وأثناء القيام بالسلوكيات في مواقف الحياة الشخصية والعامة. فالسيدة (عليها السلام) كانت في موقف عاصف بالعواطف فهي مغصوبة الحق، مظلومة، منتهكة الحرمة، مُسقطة الجنين، فاقدة لأبيها خاتم النبيين (صل الله عليه وآله)، عاطفيًا مع كونها امرأة الطبيعي أن تكون باكية، غاضبة، تعتزل من آذوها، خائفة مما هو قادم وما سيلحق ببنيها، مُنشغلة بآلامها لما تعرضت له من أذى جسدي ونفسي كبير.
ولكن ما حصل ليس كل ذلك، السيدة (عليها السلام) قالت: "أيها الناس! اعلموا أني فاطمة وأبي محمد صلى الله عليه وآله،..."(٣)، لأنها تعلم من تكون، ولأي مهمة وتكليف الهي استخلفت، وإلى أين هي آتية، فهي بنت البشير النذير، بنت من أرسل رحمة للعالمين، وما دورها إلا امتداد لدوره العظيم، فلا مجال للعواطف هنا، بل الآن وقت أداء التكليف.
المقوم الثاني: التحكم بالمشاعر
فلكي يدير الإنسان مشاعره لابد أن يُحقق المقوم الأول، ويكون من أهل المراقبة لانفعالاته وتفاعله تجاه المواقف والمشكلات -وحتى الأمور المفرحة- وهنا معرفة السيدة (عليها السلام) لنفسها جعلها تصل إلى تمكنها من إيصال رسالتها وتحقيق تكليفها الإلهي تجاه أمة أبيها.
لذا السيدة استخدمت مفردة (اعلموا) أي ادركوا بعقولكم علة اضطراري للخروج لما آل إليه حال الأمة؛ فالأمر أمر نجاة وهلاك، تولي ولي الله أو تولي أعدائه، الكون مع حزب الله أو حزب الشيطان، وليس أمرا شخصيا.
ثم قالت: [أقول عودًا وبدءً، ولا أقول ما أقول غلطًا، ولا أفعل ما أفعل شططًا](٣)، أي كل ما تقوله وتفعله هو ليس وفق حركة ارتجالية انفعالية بل لسيدة جليلة واعية بدورها، حكيمة، حليمة، عالمة حقيقة دورها الإرشادي الإصلاحي للمجتمع.
المقوم الثالث: مهارة الجذب والقيادة الاجتماعية
فكلما كان الإنسان عارفاً لنفسه، متحكماً بعواطفه وانفعالاته، يوجب ذلك إتصافه بالشخصية القيادية، الجاذبة لمن حولها، فيكونوا أكثر تأثيرًا بالآخرين، وهذا ما تحقق في السيدة (عليها السلام) بدخولها، وبأنه واحدة غيرت أجواء المجلس فأحدثت تغيرا في الجالسين.
كما ورد: "... ثم أقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم من مشية رسول الله (صل الله عليه وآله) مشيتها حتى انتهت إلى أبي بكر، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار. فنيطت دونها ودون الناس ملاءة. [فجلست] ثم أنّت أنة أجهش القوم لها بالبكاء [فارتج المجلس]. فأمسكت حتى سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم"(٤).
المقوم الرابع: التعاطف الاجتماعي
أي التمكن من التواصل المشاعري الفعال مع الآخرين، من خلال فهم مشاعرهم والتعامل معهم وفقها، ومصداق ذلك لما التفتت (عليها السلام) إلى أهل المجلس وقالت: "أنتم عباد الله نصُبُ أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم، وزعيم حق له فيكم، وعهد قدّمه إليكم،..". ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت (لهم): "يا معشر النقيبة وأعضاد الملّة وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي والسِّنةُ عن ظلامتي؟ ..."(٥).
إذ نجد اختلافا واضحا بين الخطابين، ففي الأول قالت "وأنتم عباد الله" فلم تسبقه بحرف النداء، فبذلك إشارة إلى القرب لا البعد، فالنداء يكون للبعيد، فمع إن هناك ساتر يحجبهم عن رؤيتها، لكن السيدة لم تستخدم النداء بل خاطبتهم بالمباشر، ففي ذلك نفوذ لقلب المتلقي أعمق وتواصل فعال أكثر.
كما إنه تذكير للناس كان فيه استفزازا عاطفيا لفطرتهم التي جبلت على التوحيد والتسليم لأوامر الله تعالى ونواهيه، فأين تسليمهم وامتثالهم بالتعبد وأداء الواجبات العبادية لمَ لا أثر لها عليهم، وأين وفائهم لما بلغهم به نبيهم قبل رحيله.
أما في الثاني - للأنصار- كان هناك استفزازا عاطفيا لغَيرتِهُم على دين الله تعالى الذي لطالما كانوا من أهل نصرته والدفاع عنه، فهم أولى بنصرة ابنة نبيهم الذي مُدحوا في كتاب الله (تعالى) لنصرتهم إياه فيما سبق.
المقوم الخامس: النظرة الإيجابية
كلما كان الإنسان محققًا للمقومات السابقة، كلما كان أنجح في إدارة حياته، وذو نظرة أوسع للحياة وكل ما يمر به، وكمصداق لهذا المقوم هو ابتداء السيدة(عليها السلام) بالحمد والثناء لأنها (عليها السلام) ممن عرفت ربها بمعرفتها لنفسها، أي أن كل ما جرى معها إنما هو فعل الخلق، وأما الخالق فهو المُحسن الذي لا يصدر عنه إلا كل جميل.
لذا في ختام خطبتها، قالت: "فبعين الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فأعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنّا منتظرون"(٦)، فكل ما حصل من مأساة وظلم وتقييد لحركة أهل البيت (عليها السلام) السيدة صرحت بحقيقة ما ترى به حياتها أنها من أهل العمل لا التململ، والانتظار الفعال لا المنفعل.
فالسيدة (عليها السلام) لم تنتظر من يطلب منها الخروج للدفاع عن الحق، وعن ولاية إمام زمانها، عن تذكير وتنبيه وإلقاء الحجة على أمة نبيها بل تحركت وعملت وسعت بمحض اختيارها، رغم كل أذى ووجع وألم وخذلان وقع بحقها، ظلت مشاعر حب هداية الأمة من أولويات مسؤولياتها، فكان غضبها لله تعالى، وحزنها لما سيؤول إليه مصير الأمة من شقاق وشقاء، وبذلك حققت أعلى مستويات الذكاء العاطفي.
______
اضافةتعليق
التعليقات