يوم كالرحيق يُقبل على بيوت المؤمنين ضيفاً وقورا حاملا في جيده أسمى آيات الفرح منقوشة ببينات ظاهرة وأنوار لامعة خُط عليها يوم قطف الثمرات من شجرة النبوة لتنور آفاق الهداية بأشعة شمس حيدرية، وبوحي من الله تعالى إلى رسوله الكريم: (يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنزِلَ إليك مِنْ رَبِّك وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يعصمك مِنَ النَّاسِ )، فوضع رسولنا الكريم أثقال المسير، وقام في رمضاء الهجير، خاطبا مناديا مبلغا، وأخذ بيد إمام الخلق أجمعين سيّد الأوصياء المعصومين أمير المؤمنين ويعسوب الدين ، أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب، وقال : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله .
وما أن تمّ كلامه الشريف وخطابه المنيف إلّا ونزلت الآية الكريمة :
(اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دينا)، فبشرىً لكم أيّها المؤمنون ، وسعدا لكم أيّها المسلمون، فتوج يوم الغدير عيدا ووسم بأنه عيد الله الأكبر الذي سمّي في السماء بيوم العهد المعهود، وفي الأرض بالميثاق المأخوذ والجمع المشهود، توج فيه جوهرة ربانية صنعها الله المبدع ، وصاغها محمّد الأمين ببيته وعلى نهجه، صفحة ناصعة لم يقرأها أحد، فهو الأمير والأسد، لم يصل لإمامته من بعده احد كما في حديث عن الرسول (صلى الله عليه واله) بشأن الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) حيث قال: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما) مع كل مالهما من مقام ومنزلة ولكن يبقى امام المتقين خير من مثل الامامة وحمل راية الخلافة ليكون الولي الذي لا يظلم عنده احد.
إذا تعدد الولاة فولاؤنا لمن؟
في كل مناسبة إلهية نجد نفحات عطرة أُرسِلت عبر الأجيال وخطت بأنامل خير من خلق عز وجل موضحة للناس طريق الحق فلا نضِل السبيل، وفي واقعة الغدير كان الدرس الاعظم الذي قدمه النبي الاكرم صراطا يقوم المجتمعات كلها ويؤسس دولة الحق اينما كان حاكمها، حين رفع يده مناديا: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)، لينصبه اماما للكون ويجعله رمزا للامامة، فعن طريق تنصيب أمير المؤمنين (عليه السلَام) حاكماً وإماماً وولياً على الأمة الإسلامية كان لا بدّ للمسلمين من أن يفهموا، وعلى مدى الأزمان، أنّ الحاكم الإسلامي لا بد أن يكون شخصاً مماثلاً للأنموذج العلوي أو قريباً منه، ولذلك فمن لم تتجسد فيه تلك المعايير، من علم وعمل إسلامي وإنفاق وعفو وحلم وتواضع لله تعالى، وغير ذلك من السمات التي حوتها شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فهو غير لائق بالحكومة على اي شاكلة كانت.
وعلى إثر ذلك نستطيع القول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضع هذه المعايير بين يدي أمته، ليكون لهم بمثابة درس لا ينسى، لاختيار من يمثلهم في إدارة شؤون الأمة، ولكن للأسف ضاع المثل والقدوة في بلاد المسلمين وكثر الولاة الذين لا نعي منهم سوى اسمائهم وهذا ان وجدت على صفات بالية، لا يعرفون للعهد وفاء ولا للسائل عليهم حق ولا للمحروم من اموالهم واجب، طغوا واستكبروا وتجبروا فنسوا معنى الامامة والولاية وغيروا المبادئ مع تغيير التسميات ليتنصلوا من واجباتهم بضمير متهالك لا يحمل سوى صورة اصحابه الشبيهة بغول لا يشبع. حتى ادركنا اننا لن نرتضي وليا ولا اماما لا يمثل اخلاق المرتضى ولايحمل صفاته ولايعرف معنى المنصب ولا معنى ان تكون ولياً ومسؤولا، وهو ابسط معنى يمكن ان نخرج به ونتعلمه من عيد الغدير، وهذا هو أحد أبعاد القضية التي لو نظر إليها المسلمون بعمق وإمعان لأدركوا أن هذه الحركة العظيمة التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله) أثناء العودة من أداء المناسك وفي عرض الصحراء وفي الأيام الأخيرة من عمره المبارك والمناداة بأمير المؤمنين وتقديمه لجموع الحجيج بالقول: (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه)، هي حركة مهمة في تحديد خط الحكومة والولاية في الإسلام بعد رحيل النبي الأكرم.
نفهم من ذلك إلى أن مسألة الحكومة في الإسلام لا تعني مجرد وجود سلطة تأخذ بمقاليد المجتمع وتدير شؤونه بدقة وانتظام، بل إنها تعني الإمامة، وإنّ معنى الإمامة هو قيادة الأبدان والقلوب، وليست مجرد الحاكمية على الأبدان أو إدارة شؤون الحياة اليومية للناس فحسب، بل إدارة القلوب، ومنح التكامل للأرواح والنفوس، والرقي بمستوى الأفكار والقيم المعنوية بمعنى حقيقي، وهذا هو ما يهدف إليه الإسلام.
لأن لإسلام يصبوا الى إدارة الحياة ويسعى الى منح البشرية ما ينبغي لها من كمال وسمو حقيقي فضلاً عن تنسيق وتنظيم حياتها اليومية المعهودة، وهذا هو معنى الإمامة على وجه الدقة الذي يجب ان تكون حكوماتنا تحمله صفة وفعلا كما حمله امام المتقين بكل جوانب ولايته .
فالحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين والأئمة المعصومين (عليهم السلام) .
اضافةتعليق
التعليقات