رغم تحذيرات الناصحين والخبراء وغيرهم على عدم الرجوع للماضي والتفكير بالوقت الراهن فحسب، إلا أن المرء بطبعه يأبى إلا أن يعود ولو مجازاً أو خيالاً إلى ذاك الماضي، يتجوّل فيه كحديقةٍ مبهجة، يزورُ سنيّ الطفولة ويطوف بأيام الدراسة ويجدُ كل ذكرى ماضية تحوي حنيناً غريباً يكادُ يشمُ رائحته. لكن متى يجب أن يُجفِف الإنسان أنهار الرجوع بكل جداولها وأفرعها ووديانها؟؟ متى يقرر أن يقطع ذاك النبع الذي حفر كل هذه الخطوط؟
العَودة، مصطلح حمّال أوجه ومعانٍ تتأرجح بين الإيجابيّ جداً والسلبي جداً. العَودة كلمة دافئة في لفظها وفي الخيالات التي ترسِمها في الأذهان عند النطق الأول لها، شعورٌ آمن في العَودة إلى الوطن من بعد اغتراب، العَودة للجذور وللأرض الأولى التي شهِدت ولادة الإنسان، العَودة للمنزل بعد يومٍ شاق، حيثُ يُشكل باب الدار الرئيسيّ بوابة عبور نحو جنةٍ يعرفها ساكنو الدار حصراً، جنةٌ تتكئ على أي جدار فيها فيسندك، وتطلبُ فيها ما تشاء، جنةٌ فيها قلوبٌ تُحبك، وأشخاص يهتمون لأمرك ويقلقون عليك. العَودة تشملُ كُلَ رُجوع ذو نفع وطمأنينة، إنهُ رُجوعٌ يُعَوّلُ عليه.
بعضُ الرجوع يترتبُ عليهِ تفتُق جراح وتأجج نيران قد خمدت شرارتها، يحرّكُ مياهً عكِرة فيُزيد تلوثها ويُفسد صفائها، إذ يستفز أمورًا قد استقرت في قعرها واتخذت فيه مسكناً. يُتخذ قرار تجفيف المنابع هذا حين يصلُ المرء مراحل متقدمة من النُضج والألم على حدٍ سواء، يشعرُ بالتخُمة من التجارب والمحاولات والآمال التي لم تُفضِ إلى شيء. تكمن قوة القرار في الدأب عليه، في نيّة الرحيل الفعليّ عن كل مكان وكل شخص لا يجعل انهارنا تجري جريًا رائقًا آمناً ونحو الوجهة الصحيحة. تتضمن هكذا قرارات آلامًا روحية وقلبية مُبرحة، خاصةً حين ينتزع المرء نفسه انتزاعًا وينأى بها عن كل ما اعتادت عليه لفترة من الزمن، يخرجُ بها من منطقة رخائها المزيّفة إلى عراءٍ باردٍ تكسوه غربة المسافر لبلدٍ لا يعرف فيه شيئًا وهو ذاته البلد الذي سيكتشف لاحقًا أنه المكان المناسب له، وأن تحمّل البدايات الجديدة القاسية فيه كانت ذات جدوى، وأن خيار العودة لبلده الأم كان رغم دفئه وأُلفته سيكوّن مصيرًا آخر غير مُحبّذ.
إن للرجوع ضريبة وتكلفة قد لا يحتملها كُثر، فكُل خُطوة للوراء لها ثمنها، بعضُ الرجوع يجذبك إليه مثل كثبان رملية تتشبث بك وتسحبك لقاعها ولا تُخرجك منها ابداً، ومنه ما يذيقك بعض الاختناق والصفعات الموجعة ثم يرميك لحاضرك من جديد ولكنه رميٌ قاسٍ يجعلك ترتطم بقوّة تهزّ جمجمتك وذاكرتك. يمكن من جانبٍ آخر أن يُعاد تدوير آليات العودة تلك، أن تُبنى جُسور فوق تلك الكثبان وقناطر عبور فوق بقايا النهر، أن يُدرس الماضي بشكلٍ واعي لتُستسقى منه العِبر ويُتعَلم من مراراته وهفواته بحيث يكون الرجوع له فعل استزادة وتعبئة وقود لحاضرٍ ومستقبل بعيد، أن يُتعلم منه ويحرّم المرء على نفسه تكرار اخطائه. يمكننا أن نصنع ماضينا الآن، كل يوم، كل حدث هو تجهيز لماضٍ آخر، أما أن يُندم عليه أو يُستأنسُ به.
اضافةتعليق
التعليقات