إياك أن تدع نفسك وحيدا في ليل شتاء بلا قمر، لأن شبح الحنين سيهاجمك بغتة، سيحيط بك ويضيق عليك الخناق؛ ليس لديك ما يلهيه عنك؟ إذن لامفر!.
ليلة حالكة السواد طغى عليها الهدوء التام والكُل فيها ملتحفون باتوا نيام إلا أنا؛ أتقلب بتوتر، أنصت لدقات البندول فوق رأسي وكأنه يتعمد المشيّ بتثاقل ليجعل ساعاتها تبدو طويلة جدًا، تمر ببطئ شديد يبعث على الملل ونوبات من الحزن والكآبة، ترتجف أطرافي من البرد القارص كما يرتجف قلبي مما صار يجري عليه في هذا الوقت المتأخر؛ ما الذي أصابني يا الله!.
هي لم تكن أول مرة اضطجع فيها لوحدي، ولكن انقطاع الطاقة الكهربائية يسبب الكثير من المتاعب آخرها انقطاعك عن العالم الخارجي، ذاك العالم الذي تراه من خلال الشاشات فهو سلطان الزمان الذي أصبح غالبًا من يقتل معظم ساعات يومك كما تعلم!.
اتخذت جلسة القرفصاء أمام المدفئة النفطية، راح النور الخافت المنبعث منها يحيط بي ويومض كل ثانية؛ لا صوت يعلو على صوت زخات المطر الغزير، أشحتُ النظر عاليًا نحو السقف رأيت ظلي, إني أشبه بكتلة من اشياء مكومة، الساعة تشير نحو الثانية وسبعة وثلاثون دقيقة والسماء لا زالت تُفرغ ما فيها. أنا لا أشعر بالدفء رغم توفره, يا للعجب!.
أحسست بالقلق على نفسي تُرى هل أنا مريضة دون أن أنتبه؟ أجبت -كلا أنا لا أشكو من شيء - إلا انني أشعر بالوحدة! يبدو أن الأمر كذلك, أجل أنا أشعر بها..
على معصمي سقطت أول دمعة دون علمي وتوالى بعدها سيل من الدموع؛ ما الذي حدث! يبدو إنه انهيار لفيض أحاسيس ومشاعر جميلة حُبست خلف قضبان الماضي منذ زمن بعيد ونُسيَّ أمرها فالحاضر يعجّ بالكثير, يا للظلم.. إنها لا تزال حية.. يا للغرابة!.
احتشد بيّ الشوق وكأنه تأهب لمعاقبتي، وراح يهزني بقوة لأجهش بالبكاء؛ يطرح على ذاكرتي بعض أسئلة: أين كنتِ في مثل هذا الوقت قبل كم عام من الآن؟
وعلى أي حالٍ قضيتِ تلك الأوقات النفيسة؛ وهل أتت عليكِ الليالي اللاحقة بمثلها؟!.
اتقدت في روحي شعلة حنين حارقة صوب تلك الأيام الخوالي وأعادت شريط ذكريات سعيدة يتقطع الفؤاد لفقد صانعها، كُنا برفقته نجلس كل مساء مجتمعين حول المدفئة نتلاعب بانحناءات أصابع أيادينا لنرسم بعض أشكال يعكسها ضوء الفانوس النفطيّ على سقف وجدران غرفة المعيشة، كخيال لحمامة تطير وكلب بنبح وأرنب يحرك أذنيه وكل واحد يتفنن بما يعرف ليقوم بعرضه علينا بالصورة وتقليد للصوت أيضًا..
كان حين يجتمع بنا أرى حتى عيناه تبتسم بحب كبير لوجودنا حوله كنت ألاحظ الغبطة ترتديه كليًا، يتفقدنا بعمق ويقص علينا بعض الحكايا ويلقي على مسامعنا بعناية الكثير من الحِكم والنصائح التي كنا غالبًا ما نتذمر من سماعها في كل مرة لجهلنا مدى قيمتها، كان يبدأها بكلمة (الحياة.... ..الخ) ولا ننفك من محاولة تلخيص هذه الفقرة لننتقل إلى متعة مخزنة يمتلكها بعفوية، وموهبة رائعة في كيفية سرد الطُرفة التي لا نمل سماعها من فمه حتى لو كررها ألف مرة، فعِلو نبرات قهقهاته الصادقة هي التي كانت بحد ذاتها ما يجعلنا نضحك من كل قلبنا!.
أعتقد أن ضحكاته الصاخبة تلك لم تكن بسبب سماع الطُرفة التي نقولها نحن أو هو؛ وإنما الحقيقة خلف روعة سعادته هي وجوده بيننا، دائما ما كنت أحس عليه وهو يتفقدنا ليلًا يعيد ترتيب الأغطية على أجسادنا كي لا نبرد ويتفقد النوافذ والأبواب خوفًا من وجود فجوة مهما كانت صغيرة أن تأتي علينا بالهواء البارد، وبعدما كبرنا فارقناه وأصبح كل واحد فينا رب لأُسرة، هو لم يتغير أبدًا بل اصبحوا أولادنا ونحن شغله الشاغل وزاد اهتمامه وحرصه علينا، فلا يهدأ له بال طوال الأسبوع وهو في انتظار يوم الجمعة ليتصل بنا ويدعونا لزيارته وهذا بالنسبة لنا يُعتبر أَمرٌ وليس طلب.
وكالعادة لابد من انعقاد جلسة المساء للاطلاع على آخر المستجدات في حياتنا مع تقديم الارشاد والنصح للتخلص من المشكلات بأحسن الحلول؛ وبعدها نستمتع بالسخرية من بعضنا البعض والضحك الكثير إلى أن نتعب وننام نحن وهو يسهر حتى طلوع الفجر, يرتل آيات كتاب الله بخشوع وصوت خافت شجيّ كعادته؛ كثيرًا ما سمعته يدعو لنا بالتوفيق والهداية، إلى اليوم لا زلت أشعر بملمس يديه الحانية على جبهتي كلما مرِضت كأنه يزورني في المنام وإني لأحسبه يقظة!..
طيب القلب هو, حنانه وعطفه يشمل كل من يقابله أياً كان حتى عابر الطريق، منذ صغري اعتدت على رؤية عطائه الباذخ تجاه الجميع وتعلمت منه أن العطاء يفوق الأخذ سعادة وجمال، وإن الإيمان المطلق بالله هو سبيل النجاة في أحلك الظروف والأحوال والصبر على البلاء خير الأعمال، وإن الحياة مدرسة مهما قست علينا باختباراتها الصعبة التي نفشل فيها سنتعلم من خلالها كيفية النجاح، وإن بعد كل سقوط لابد أن ننهض بقوة..
تعلمت منه الكثير لكنه لم يُعلمني كيف أقاوم حنيني إليه دون انهيار وبكاء، رحل سريعًا بلا سابق انذار وترك في قلبي كسر لا يُجبر، رافقه في رحيله كل شيء جميل عشناه على حياته, اجتماعاتنا صارت نادرة وضحكاتنا كاذبةٌ إن علت يجتاحها الحزن فتنعى ذكراه لنعود ونقول: "رحمك الله يا أبي" كان يقول.. وكان يفعل..
من قال أن الماضي يمضي, يرحل ويموت! لا شيء مما عشناه يُنسى بل في أدراج الذاكرة يطوى ويُترك إلى حين تعصف لأجله رياح الحنين كلما افتقدناه وافتقرنا لمثله أو الألم القاتل لعودة ما قاسيناه, مرة أخرى..!
ازداد وجع قلبي وغزا رأسي صُداع فظيع, شهقت بقوة وهممت بالقيام وعندما وقفت شعرت بالدوران فسقطت أرضًا وأنا أرتجف وأتوجس خيفة، ما الذي سيحدث لي وكأن نهايتي أوشكت!
يا للسعادة.. هل سألتحق به أخيرًا..
استسلمت لضعفي وتمنيت الرحيل بهدوء؛ ولكن سرعان ما تداركت نفسي فور سماع صراخ طفلتي وهي تناديني من غرفتها في العلية، استفقت بحالٍ تعِب لأذهب اليها وإذا بصوت المؤذن يعلو: (ان الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) هنا ذكرت الله وصليت على نبيه ورحت أستغفره وأسأله العفو لغفلتي فبعد كل غياب هناك لقاء بإذنه الرحمن؛ إلى أن تجلى نور الصباح وعادت الطمأنينة لربوع قلبي..
اضافةتعليق
التعليقات