اجتمعتُ بمهند تلميذي في فنون القتال بعد فراق أسبوع إذ جاء اليوم من بريطانيا إلى بلاد الرافدين حاملاً معه ميدالية ماسية فائزا بالمرتبة الأولى على العالم في فن المصارعة ، دخل داري مرتدياً بدلة فاخرة من أرقى الماركات التجارية وساعة ونظارة من الماركة ذاتها نظراته لمن حوله متغطرسة، تحدثنا حول المسابقة حتى حلَّ الضحى وهاجت الحمام السواجع، بدت الشمسُ كرغيف ذهبي أنضجته السماء، تناولنا معاً وجبة الغداء بعد أن شويت غزالة صغيرة وتحتها رز انتشرت رائحته ثمَّ أعددت الشاي على الفحم وسكبت كوبين فغمر المكان عطر الهيل.
- شرعت ُبالحديث قائلاً:
لقد تتلمذت على يديَّ، علمتُك منذ نعومة أظفارك على قوة القلب والشجاعة والبسالة وكل صفة حميدة لكنني الآن متعجب منك فما هذا الغرور والتكبر؟؟!!
لقد سمعتُ إنك لما وصلت اليوم الى مطار بغداد كان أخوك في انتظارك ليستقبلك ويقلك الى منزلك لكنك لم تذهب معه بسيارته لأنها مهترئة بل ذهبت مع سائقك الخاص في سيارتك الروز رايز الحمراء !!!
-قال لي مهند بحزن:
لقد عانيت كثيراً حتى وصلت إلى ما أنا عليه الان ألا يحق لي بعد ذلك أن أفرح بانتصاري وأن أرى نفسي على كل رجال العالم؟؟!
-أجبته قائلاً:
يحق لك بالطبع أن تفتخر بنفسك وتسعد لانتصارك ولكن لذلك حدود ولكل شيء أصول كان من الجدير بك أن تحتفل بانتصارك وأنت في وسط أهلك وأحبابك لا أن تقلل من احترام أخيك الوحيد!!
-فقال خجلاً مطأطئًا رأسه:
أخي
بعد هنيهة رفع رأسه فلفت انتباهه لوحة جدارية قد علقت في وسط الحائط رسم عليها صورة العباس بن علي (عليه السلام) أطال النظر فيها كانت شفتاه متشققة وعيناه غائرتان بينما تلفح الشمس وجهه وهو يرتدي ملابس الحرب الثقيلة واقفًا على المشرعة يرمي الماء الذي اغترفه بيده على الماء، ترفرف راية أخاذة فوق رأسه امعنت النظر فيها فلاحت لي كأنها شراع سفينة أبحرت بي في بحار التاريخ قافلة عدة سنين إلى الوراء.
رست السفينة عام 56ه، بعد انتهاء معركة الطف أخذوا الغنائم إلى يزيد الحاكم الغاصب للخلافة في الشام كان من بينها راية قد أصابت السهام كل جزء فيها إلا مكان قبضة اليد بقيت سالمة فلما رآها يزيد دُهش وقام من محله وسألهم من كان حامل هذه الراية فأجابوه العباس بن علي.
انه حامل اللواء ذاك الضارب بالسيفين إذا حمل على كتيبة اخترقها من أولها إلى آخرها وولَّد عددًا كبيرًا من القتلى.
أعدت النظر في اللوحة فرأيت العباس (عليه السلام) قد تقلّد سيفه البتار دققت النظر فيه فأعادني الى يوم القنطرة وهي إحدى الحروب الطاحنة التي شارك فيها حامل السيف سميت بحرب النهروان التي قادها الإمام علي (عليه السلام) ضد الخوارج، حينها لما وصل أمير المؤمنين إلى مدينة النهروان أغلقوا الأعداء باب السور عليهم فمسك الإمام علي (عليه السلام) الباب وقلعه كما قلع سابقاً باب خيبر، وكان لمدينة النهروان أربعة أبواب فأمر أولاده الحسن والحسين ومحمد بأن يحرس كل منهم باباً فبقي باب واحد من دون حراسة، فمضى العباس إلى والده وهو آنذاك غلام وطلب منه أن يأذن له في حراسة الباب التي بقيت من دون حارس فأجابه بأنه لايزال صغيرا ويخشى عليه ، اذ كان أمام الباب نهراً متدفقاً ينساب فيه ماء ٌزلالٌ أخَّاذ ٌغدار، وكان على النهر قنطرة.
احمر وجه العباس فبانت في عروقه الغيرة الهاشمية التي ورثها من أبيه وقال :إني لها كما كُنتَ لها حين نصرت رسول الله وأنت صغير.
تجلت على وجه علي (عليه السلام) ابتسامة مشرقة وقال له : كفؤ كريم.
ذهب علي (عليه السلام) الى وسط الميدان يحارب الأعداء شهر سيفه وانقض عليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة ، تصاعدت الأتربة فهربوا منه محاولين الفرار من الأبواب لكنهم لم يقدروا على أولاد علي فتوجهوا جميعهم إلى باب القنطرة فرأوا غلاماً صغيراً عيناه تقدحان وهو يقول أمن قبلي تفرون وأنا بن الموت الأحمر أنا ابن علي فقاتلهم حتى انكسر سيفه فكان يأخذ بالفارس وهو على القنطرة ويرمي به في النهر.
ومنذ ذلك اليوم لقب العباس بسبع القنطرة، وسبع القنطرة يعني الرجل الشجاع الذي حمى الجسر من عبور الأعداء عليه.
فجأة سمعنا طرقاً على الباب انتشلتنا الطَرقات من إبحارنا في التاريخ لما فتحت الباب ناولتني امرأة مسنة قرص خبز وقالت [هذا خبز المستعجل، خبز العباس، اطاني مرادي أبو راس الحار أطلب مرادك حجّي].
فشكرتها على ذلك، فتحت الخبز ووجدت بداخله القليل من الخضروات واللبن، فجأة شرد ذهني سارحاً في معجزات العباس، يا ترى إن معجزة المرأة المسنة كم رقمها من تسلسل معجزاته؟؟
لابد أنها لو سُجلت لتصدرت في غينيس للأرقام القياسية.
اضافةتعليق
التعليقات