حدث ذات يوم في مركز رعاية الأطفال، في أثناء اللعب الخشن، أن الطفل مارتن البالغ من العمر عامين ونصف العام، لمس طفلة صغيرة انفجرت في البكاء دون سبب. أمسك مارتن بيدها، لكن الطفلة أخذت تنتحب وابتعدت عنه، فضربها على ذراعها.
ومع استمرار بكائها ، نظر «مارتن» بعيدا ، وصرخ فيها «اخرسي ... اخرسي»، وظل يردد هذا بسرعة أكثر وصوت أعلى . وعندما حاول «مارتن» مرة أخرى أن يربت عليها ، قاومته ثانية في هذه المرة، سن «مارتن» أسنانه مثل كلب مزمجر، وأخذ يهمس للطفلة المنتحبة، ومرة أخرى أخذ يربت على ظهرها، لتتحول هذه «الطبطبة » سريعا إلى ضرب عنيف، واستمر يضرب الطفلة الصغيرة المسكينة على الرغم من صراخها تثبت هذه المواجهة المضطربة، كيف يؤدي سوء معاملة الطفل، بضربه مرارا وتكرارا، وفقا لحالة أبويه المزاجية، كيف يؤدي هذا الإيذاء الجسدي والنفسي إلى إفساد نزعة الطفل الطبيعية للتعاطف> فها نحن نرى سلوك «مارتن» الشاذ واستجابته الوحشية لتكدير رفيقته الطفلة نموذجا لأمثاله من الأطفال الذين هم أنفسهم ضحايا ضرب أبويهم وإيذائهم البدني منذ طفولتهم، هذا النموذج يناقض تماما مع الأطفال الرحماء، الذين يحاولون مواساة أقرانهم الباكين، كما بينا في الفصل السابع. إن استجابة «مارتن» العنيفة لانزعاج الطفلة، تكشف جيدا الدروس التي تعلمها في أسرته عن الدموع والألم النفسي فالبكاء يقابل في البداية بإيماءة مواساة قاطعة لكن إذا استمر هذا البكاء، فستأتي النظرات البغيضة والصراخ في وجه الطفل، ثم انتقاده بشدة، وانتهاء بالضرب المباشر وربما كان الأكثر إزعاجا بالنسبة لـ«مارتن» أنه يفتقر بالفعل إلى أكثر أنواع التعاطف الفطرية وهي غريزة الامتناع عن مهاجمة إنسان مجروح المشاعر، فهو طفل لا يتجاوزعمره عامين ونصف العام لا أكثر يكشف عن برعم الدوافع الأخلاقية لوحشية سادية قاسية.
ولا شك في أن «سفالة مارتن في مجال التعاطف الوجداني»، هي تماما صفة أمثاله من الأطفال، الذين تعرضوا في بيوتهم وهم في عمر الزهور الرقيق إلى الإيذاء العاطفي والجسدي الذي يترك آثاره عليهم. كان «مارتن» واحدا من مجموعة مكونة من تسعة أطفال مثله تتراوح أعمارهم من عام واحد إلى ثلاثةأعوام تعرضوا مثله للإيذاء.
كان معهم للمقارنة تسعة أطفال آخرون أبناء أسر تعيش تحت ضغوط نفسية شديدة، لكنها لا تؤذي أطفاله اإيذاء جسديا، كانت الفروق في ردود أفعال المجموعتين مذهلة حقا في سلوكهم تجاه طفل يشعر بالألم أو الانزعاج.
لوحظ أن خمسة أطفال من التسعة الذين لم يتعرضوا للأذى في بيوتهم، تصرفوا في 23 حالة من مثل هذه الحالات طفل يعاني من الضيق والألم بالقرب منهم تصرفوا معه باهتمام وحزن، أو بتعاطف، أما بالنسبة للأطفال الذي تعرضوا للإيذاء الجسدي في بيوتهم، فلم يظهروا في 27 حالة مماثلة أي اهتمام بالطفل المتكدر، بل على العكس كان رد فعلهم مع الطفل الباكي، تعبيرات من الخوف والغضب، أو بالعدوان البدني كما فعل«مارتن». هؤلاء الأطفال يعاملون غيرهم من الأطفال كما يعاملهم آباؤهم وأمهاتهم فقسوة قلوب هؤلاء الأطفال الذين يتعرضون للإيذاء الجسدي، هي ببساطة نسخة أكثر تطرفا من قسوة الأطفال الذين يقتصر إيذاؤهم على مجرد انتقاد آبائهم لهم، وتهديدهم، وعقابهم عقابا شديدا، أما المجموعة الأولى فلا تهتم على الإطلاق برفاقهم الأطفال إذا جرحوا أو بكوا ومن الواضح أنهم يمثلون قمة البرود الدائم الذي تصل ذروته إلى وحشية الاعتياد على ما يلقونه من إيذاء جسدي في بيوتهم ومع تقدم العمر، نجد أن هؤلاء الأطفال كمجموعة، يواجهون صعوبات في التعليم، ويصبحون عدوانيين مكروهين بين أقرانهم، وأكثر نزوعا للاكتئاب، وعندما يبلغون سن الشباب من المتوقع تورطهم في مشاكل مع القانون، وارتكابهم أكثر الجرائم عنفا .
يتكرر هذا الفشل في التعاطف أحيانا، إن لم يكن غالبا، في الأجيال المختلفة، يتكرر مع الآباء المتسمين بالقسوة الذين عانوا هم أنفسهم من القسوة نفسها في طفولتهم على أيدي آبائهم، هذا الفشل هو النقيض الدرامي للتعاطف الطبيعي الذي يظهره الأطفال الذين نشأوا في أسر تشجعهم على الاهتمام بالغير، وتفهم شعور الأطفال إذا تعرضوا لمحنة ومن ثم، فإن دروس التعاطف إن لم يتعلمها الأطفال منذ المهد، فلن يتعلموها بعد ذلك على الإطلاق.
والواقع أن الأمر الأكثر إزعاجا حقا بالنسبة للأطفال الصغار الذين يتعرضون لسوء المعاملة والأذى، هو أنهم يتعلمون الاستجابة كنسخ مصغرة من آبائهم وأمهاتهم الذين يسيئون معاملتهم وقد تبين أن الضرب الجسدي الذي يتعرضون له يوميا كان له أثره الواضح على ماتعلموه من انفعالات وإذا وضعنا في الاعتبار أن النزعات البدائية لمراكز المخ الخوفي يكون لها الدور المهيمن في اللحظات التي تحتدم فيها مشاعرنا أو التي نمر فيها بأزمة، فإن العادات التي تعلمها المخ الانفعالي على مر الأيام سوف تكون لها الهيمنة سواء أكانت في اتجاه الأفضل أو الأسوأ، هكذا نرى كيف يتشكل المخ ذاته بالقسوة، أو بالحب، مما يشير إلى أن الطفولة تمثل فرصة فريدة لتعلم الدروس العاطفية فهؤلاء الأطفال المسحوقون قد تغذوا مبكرا على نظام ثابت من الأذى والصدمة، وقد يكون أولئك الأطفال التعساء المعذبون نموذجا يوضح لنا الكيفية التي يحدث بها الأذى بصفة دائمة في المخ، بل مدى إمكان تعديل هذه الآثار القاسية.
اضافةتعليق
التعليقات