يرتبط المنظور العام للتنوع الثقافي العالمي، قبل كل شيء بتصارع العلاقات على الصعيد القومي والعالمي. لقد كان القرن الماضي هو القرن الأشد دموية الذي عاشته البشرية. فغالبا ما لحقت الحروب التي صارت كلية وعالمية، مجازر جماعية ومعسكرات اعتقال وحشد وإبادة عرقية وعنصرية من كل نوع وحظر وانسداد للأفق واستعمار جديد وغزو وبربرية.
وبداية هذا القرن ليست أفضل، إذ أن عدد الضحايا والدمار يفوقان الخيال كما يجدر القول إنّه منذ ثمانينات القرن الماضي، وخاصة إثر سقوط جدار برلين تعيش الإنسانية، في نفس الوقت حياة قصوى من الضغط تخيم عليها الحروب والصراعات العرقية والإرهاب وعدم الاستقرار والعنف وذلك من أجل تثبيت نظام اقتصادي وسياسي جديد، ودبلوماسية القوة التي استبدلت فيها القوة بالاستخدام اليومي لها والهيمنة أحادية الجانب لقوة وحيدة تريد البروز بما هي كذلك في كل مكان من العالم.
ليس غريبا إذن أن نرى بروز تواصلية جديدة، مؤسسة على مصطلحات حربية مثل الإرهاب و محور الشر، والتهديد النووي وغيرها بل يجب القول إنّ الحرب ذاتها قد أصبحت تواصلًا مثل ما أكده هيغل من خلال التشديد على ضرورتها في إعادة إكساب الشعب معناه.
فالعولمة هي التي جعلت الحرب واقعة يومية للسياسة. لكن العولمة وإذ نعترف بقدمها من جهة نمط وجودها هي الآن وفي الوقت الحاضر استمرار للاستعمار بوسائل أخرى. إذ هي نتاج اقتران معقد بين النمط الليبرالي وبين هيئة غير مسبوقة من وسائل التواصل.
نعرف جميعا أن العولمة قد تمكنت من تجميع البشر ضمن كوكب ضيق نطلق عليه تجنيا تعبير القرية العالمية. ولكن ذلك سيكون من أجل مزيد مراقبتهم والتحكم في زمنيتهم وفي حركتهم. فبالنسبة إلى هذه التقنية الحديثة للتواصل، ليس هنالك مجال خاص وحميمي، ولا مكان للأسرار: فالسر قد غمره هذا الجسم ليتمكن من فضحه متى شاء ومتى أملت الظروف عليه ذلك.
تبلورت هذه الرؤية الكارثة للعالم، في الوقت الذي صارت فيه سهولة تنقل الأشياء والأفكار أكثر فأكثر تناميا وفي الوقت الذي كثرت فيه الاعتقادات المتنوعة والمذاهب المتناقضة وذلك حتى تجعل من عالمنا مجالا للتنوع الثقافي. فهذه التعددية هي نتيجة لإعادة إقرار التنوع الثقافي وإبراز الهويات المكبوتة في عالم ينكشف أكثر فأكثر ليبين تعدديته البناءة.
فالمجتمع ذو الثقافة الواحدة، أي الموسوم بتمثل قوي للوحدة (وحدة قومية، وحدة لغوية، وحدة عرقية ...) قد يضمحل شيئا فشيئا ليحل محله مجتمع متعدد الثقافة ينفجر فيه نموذج الدولة القومية ليضفي معاني متعددة الاتجاهات على الهوية. على أننا لابد أن نلاحظ هنا أن تفجر الهويات الثقافية، وبروز القوميات ذات العرق الواحد قد نتج عنهما على نطاق شاسع، عدم استقرار التوازن المؤقت لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن أجل ذلك حاول المفكرون والإيديولوجيون أن يعزّزوا حلاً قد ترعرع في تجربة كندا المعروفة. وهو الحل الذي يربط بين الاندماجية والاختلافية. وقد أخذ النقاش في النهاية بعدًا سياسيا قامعا لتعبير الاختلاف ضمن دائرة الحياة الخاصة داخل البلدان الديمقراطية، بحيث قد يجبر أصحاب القرار الناس بواسطة كل الوسائل التكنولوجية المتاحة على الانضواء في حقل إيديولوجي معين أو في نمط حياة معينة وعلى الموافقة سواء كانت ضعيفة أو ذات شأن على مشروع وحيد وشكل من الوحدة الثقافية والإيديولوجية: وحدة تشتمل بالتأكيد على كثير من الوجوه الضامنة للخيار الديمقراطي، ولكنها تحاول التأكيد على التماسك الاجتماعي من خلال اختزال الاختلافات هذا.
فالاندماج الثقافي الذي اعتمده الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون مثلا، هو توجه إيديولوجي فريد للحصول على مزيج من الثقافات المتواجدة من أجل بناء «كتلة» غير مكترثة بضرورة التنوع.
إن التنوع الثقافي لا يشمل المجتمعات المتعددة والتحولات الأنتروبولوجية المتعلقة بالمجتمعات المعاصرة للدول الغنية فقط، تلك المجتمعات التي قد صبغها أكثر فأكثر حضور ثقافات متعددة وتجمعات كثيرة وبالتالي تنوع كبير في أنماط الحياة نتيجة ظاهرة الهجرة. فهو يشمل الآن أكثر فأكثر مجتمعات موسومة بالواحدية الثقافية. حتى أن المكونات الفكرية الشمولية قد تصبح في غير محلها، في هذه المجتمعات، لاسيما عندما تحاول هذه المكوّنات إنشاء تماسك متين في العلاقات البشرية.
يتأتى هذا النمط من التنوع الثقافي إذن عن عولمة الأفكار ومستتبعاتها مثل عودة الهويات وتأكيد المرجع الذاتي للتجمعات العرقية الدينية. لكننا، في هذا المستوى يجب أن نستشف تناقضا في منطق العولمة: ففي الوقت الذي تفتح فيه الحدود داخل أوربا للأوربيين، فإن معاهدات تغلقها حول أوربا.
فنحن نسير باتجاه إحداث شرخ في الإنسانية ذاتها، أي باتجاه إقرار إنسانية أولى متحررة من الضغوط ومن الحدود تتنقل بحرية وتبني عالمها من حيث هو العالم بحد ذاته من جهة ومن جهة ثانية باتجاه نبذ الشطر الثاني من الإنسانية الذي يجب أن يتقبل كل هذه الضغوط ليصبح غريبا عن العالم يتنقل أصحابه بتأشيرة ويفكرون برخص ويعبرون برقابة ويعيشون بانتماء وعبودية.
نحن إزاء بروز شكل جديد للإنسان نطلق عليه اسم الغريب الأجنبي، من خلال عولمة تنقل السكان، تلك التي أخذت اتساعا شديدا في السنوات الأخيرة. ففي هذه العولمة يتم التحكم قانونيا في الغريب الأجنبي من خارج الغرب. إذ تفرض عليه تأشيرة تنقل حتى يمكن فرزه وتمييز الغريب الصالح عن «المتخفي» و« المتحيّل»، و«الإرهابي»، و«الملوّث»، و«اللاجئ، وطالب اللجوء السياسي، إلخ... إن آلية اقتصاد الأجنبي الغريب وعزله تتعولم بدورها، إذ من خلال علامة رفض التأشيرة» التي تظهر جليا وبلون أحمر في جواز السفر، يتم منعك من التنقل في أغلب بلدان العالم، فهم يجبرونك على استمرارية وضعك الاجتماعي محبوسا مستقرا بدون حق التنقل خارج الحدود، لا لشيء سواء لأنك تنتمي إلى الإنسانية المنبوذة.
في حين يتنقل الآخرون المنتمون إلى الإنسانية الأولى المهيمنة بكل حرية وكأن ليس فيهم من هو متحيل وملوث وإرهابي.
ولعل المثال الأكثر تشييد الثقافة المعينة من التعددية هو مثال ثقافة الهجرة. إذ أن مطالبة المهاجرين بالهوية تقوم على العودة إلى ثقافة الأصل التي تُعد شكلا رمزيا للانتماء، ولكنها أيضا ستتحدد من خلال إرادة التأقلم مع المجتمع المضيف الذي كثيرا ما يكون متسما بالإقصاء العنصري وبعدم الفهم والتفاهم مع الآخر. ومن هنا نشأت ثقافة جديدة داخل ظاهرة الهجرة، في الغرب، منصهرة في تعددية الانتماء مغاربي، إفريقي، آسيوي تركي... من ناحية وفي هشاشة الأفق في المجتمع حيث يعمل ويعيش. هناك عودة إلى ضرب من الأسلمة التي تتوق إلى توحيد نمط العيش وآفاقه، بالنسبة للمغاربة مثلا، وفي نفس الوقت، إقرار تنوع في أشكال التعبير المتعلق بالهوية في مجالات الفن الموسيقى العالمية الرأي... الخ) وفي ممارسات اجتماعية متعددة.
وإذا كان هناك ميل راهن للتقوقع في الهوية، فإن ذلك ليس نتيجة استحواذ الوحدة بالضرورة على مكان التعددية الثقافية، بل لأن المجتمع حيث يعيش الغريب ويعمل قد أقر منطق استبعادي يقوم على إقصاء حضاري مناطق سكان ذات كثافة للمهاجرين وإقصاء ثقافي (تمثيل نسبي ضعيف في التظاهرات الثقافية والسمعية البصرية) وإقصاء عقائدي (عدد الأمكنة المحدود لإقامة الطقوس والعبادات، وأغلبها غير ملائم)، وإقصاء اقتصادي واجتماعي.
اضافةتعليق
التعليقات