كلنا ننشد الْفَرَح بإصرار، لأننا لا نعرفه إلا بشكل عابر. يعرفه المحب في حضرة محبوبه واللاعب لحظة انتصاره، والمبدع أمام ما صنعت يداه، والباحث لحظة اكتشافه إحساسًا يفوق الشعور باللذة، إحساسًا أكثر واقعية من السعادة انفعالا يستولي على صاحبه ويصير - عبر أشكاله التي لا حصر لها - غايته القصوى.
يحمل الفرح في ذاته قوّة تهزّنا، تغزونا، تجعلنا نتذوقه حتى الشبع. الفرح تأكيد على الحياة. تَجَلٍ لقوتنا الحيوية، هو الوسيلة التي نتيقن عن طريقها من حقيقة وجودنا ونتذوّق عبرها هذا الوجود. ما من شيء يجعلنا نشعر أننا أحياء مثل تجربة الفرح. لكن هل بوسعنا أن نساعد على ظهوره أو كبحه، أو غرسه في أنفسنا؟ هل بوسعنا اليوم أن نؤسس لحكمة تستند إلى قوة الفرح؟
إن بلوغ الفرح يتم عبر ثلاثة مسارات، فهو يظهر في المسار الأول عبر بعض الحالات والمواقف مثل الانتباه والحضور، والثقة وانفتاح القلب، والمنح بلا مقابل، والحفاوة والشكر والمثابرة في الجهد، والاستسلام، أو المتعة التي تتحقق للجسد. ثم هنالك مساران آخران يقوداننا إلى تجربة فرح أكثر دوامًا؛ أولهما مسار الانفصال وفك الارتباط أي التحرر الداخلي الذي يسمح لنا بالتدريج بالتعرف على ذاتنا الحقيقية، ومسار آخر هو على العكس من ذلك، وفيه يعود الارتباط من جديد، هو مسار الحب الذي يسمح لنا بالتواصل مع العالم ومع الآخرين بطريقة كاملة وصحيحة.
وسنكتشف حينها أن الفرح المثالي، الذي يتم الوصول إليه عبر هذين الطريقين من تحقق للذات ومن مُشَاطَرَة للعالم، ليس إلا تعبيرًا عميقًا ونشطًا وواعيًا، عن الفرح بكوننا أحياء، وهو فرح كان قد منح للجميع منذ اللحظات الأولى من وجودنا ولكننا فقدناه في الغالب بسبب ما واجهناه من صعوبات.
تعتبر تجربة الشعور بالإشباع، وما ينتج عنه من إحساس باللذة الأكثر انتشارًا والأكثر فورية تجربة نحياها جميعًا حين تشبع حاجة أو رغبة يومية. أشعر بالعطش فأشرب، وحينها أشعر بالاستمتاع. أجوع فأكل، وحينها أشعر بالاستمتاع بل باستمتاع كبير إن كان الطعام شهيّا. أشعر بالتعب فأخلد إلى الراحة وحينها أستمتع. أرتشف قهوتي أو الشاي في الصباح وأعتبر ذلك لحظة من الاستمتاع واللذة. هذه المُتع الحسيّة هي الأكثر شيوعًا. وثمة متع أخرى، تتعلق أكثر بالداخل، مصدرها القلب أو النفس. كأن أقابل صديقًا، أو أتأمل منظرًا طبيعيًا، أو أستغرق في قراءة كتاب يروقني، أو أسمع موسيقى أنفعل معها، أو أتمّ عملاً كان يشغلني، ذلك كله يجعلني أستمتع، أي يجعلني أشعر بالإشباع لا يمكن أن نحيا من دون الشعور باللذة: وهكذا يمكن تلخيص حياتنا باعتبارها واجبًا لا ينتهي يتعين علينا إنجازه لتحقيق هذا الشعور.
ولكن مشكلة اللذة، أنها لا تدوم. آكل، أشربُ، وبعد بضع ساعات أجوعُ وأعطشُ من جديد.
يمضي الصديق الذي كنت قد التقيته، تتوقف الموسيقى، يتنهي الكتاب، وحينها أتوقف عن الشعور باللذة. يرتبط الإحساس باللذة بمثير خارجي لا بد من تجدده دوما. من جهة أخرى، الشعور باللذة هو في الأغلب شعور متناقض: فكلنا يشعر برغبات أو حاجات لا يتم إشباعها وأحيانًا يكفي حدوث أمر بسيط للغاية لكي تذهب عنا كلّ متعة نرجوها كأن نشرب ماءً فاترًا أو نتناول طعامًا ماسخًا أو نلتقي صديقا عكر المزاج، أو حين يتبدد جمال منظر ما بسبب رفقة سيئة.
وفي واقع الأمر، من الصعب للغاية الشعور بالرضا والإشباع بشكل دائم إن ارتبط ذلك فقط بالسعي وراء اللذة.
المشكلة الثانية التي مررنا بها جميعًا، أن بعض اللذات ترضينا بشكل فوري ولكنها تضرنا على المدى الطويل. فمن دون شك ستكون للأطباق الشهية الغنية بالدهون والسكريات تداعياتها على صحتنا لو تم تناولها بكميات كبيرة؛ الفتاة الجميلة أو الشاب الجميل اللذان قد يحققان لنا لذة جنسية فورية يعرضان حياتنا الزوجية للخطر...
على المدى المتوسط أو الطويل، بل من منظور أكثر شمولًا للوجود، يكشف الإشباع الفوري للذات أحيانًا عن تقدير خاطئ للأمور.
ويطرح هذان العائقان سؤالا عكف حكماء الشرق والغرب على دراسته: أ ثمة إشباع دائم يتجاوز الطبيعة الزائلة والمتباينة للّذة؟ إشباع لا يحده الزمن ولا يرتبط بظروف خارجية ولا يصير في النهاية بمثابة الرفقة السيئة؟ إشباع أكثر شمولًا وأكثر ديمومة نوعًا ما.
ولتعريف هذه الحالة، تم ابتداع مفهوم السعادة. وهكذا بدأ بحث فلسفي قدم فيه الحكماء والمفكرون إجابات متنوعة ساعين دومًا إلى التغلب على حدود اللذة ونقاط الضعف المرتبطة بها، وهو البحث الذي بدأ نحو منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد في الهند والصين وحوض المتوسط. وتركزت هذه الإجابات، التي جاءت غاية في التنوع في ثلاث نقاط رئيسية: لا توجد سعادة من دون لذة ولكن لكي نصير سعداء لا بد أن نتعلم التمييز بين لذاتنا وأن نتعلم التقليل منها. يقول أبيقور أحد الفلاسفة: "ليس ثمة شر في اللذة ذاتها. لكن، من ناحية أخرى، الأسباب التي تسهم في تحقيق بعض من هذه اللذة قد تحدث اضطرابات أكثر مما تُحقق من متعة". و يرى أبيقور أن الإكثار من اللذة يقتل اللذة ذاتها، وأننا نلتذ أكثر من شيء ما حين ننجح في الحد من كم اللذة المتحققة مفضلين النوعية على الكم.
تزداد سعادتنا بين بعض الأصدقاء حين نجتمع معًا حول طاولة بسيطة تضم طعاما جيدًا أكثر مما نكون عليه لو اجتمعنا حول مأدبة عامرة بالأطباق وبالضيوف، فيحول ذلك دون قدرتنا على تذوق ما تتميز به بعض من تلك الأطباق من جودة كما يحول دون الاستمتاع بصحبة بعض الحضور.
يواصل أبيقور: «حين نقول إن اللذة هي الهدف من الحياة، لا نتحدث عن ملذات الشهوانيين، القلقين، ولا عن تلك التي تتحقق عند التمتع بملذات تتجاوز الحد لأن لا مواصلة الليل بالنهار في الأكل والشرب ولا ملذات اليافعين من الشباب والشابات، ولا مذاق الأسماك والأطباق الأخرى التي تضمها طاولة عامرة، ليس هذا كله ما يصنع الحياة السعيدة، بل التعقل اليقظ القادر على أن يجد في كل الظروف الدوافع لما يتوجب اختياره ويتعين تجنبه والذي يسمح برفض الآراء الباطلة التي تتسبب في أكثر ما تعانيه الأرواح من اضطرابات.
ولأن اللذة عابرة وتابعة لأسباب خارجة عنا، ثمة سؤال يُطرح: كيف يمكن إدامة السعادة؟ بمعنى آخر، كيف لسعادتي أن تستمر إذا فقدت عملي؟ أو لو هجرني شريكي؟ أو مرضت؟
لا بد من تخليص السعادة من أسبابها الخارجية والعثور على أسباب جديدة لها، لكن في داخلنا هذه المرة. وهذه هي الدرجة الأعلى من السعادة المسماة الحكمة أن تكون حكيمًا، يعني قبولك للحياة كما هي...
ويمكن تلخيص الحكمة المثالية كما عرفها القدماء في كلمة واحدة: «الاستقلالية» أي الحرية الداخلية التي لا تجعل سعادتنا أو شقاءنا يتوقفان على الظروف الخارجية. هذه الاستقلالية هي التي تعلمنا أن نرضى عن كل ما سيجري، السار منه وغير السار، ونحن مدركون أن السار هذا ما هو إلا فكرة متصوّرة مثله مثل ما هو غير سار. والحكيم هو من يتفهم الحالتين، فالسعادة التي يسعى إليها هي في الغالب حالة يريد لها أن تكون عامة وأن تستمر لأطول وقت ممكن على العكس من السعادة العابرة. يعلم الحكيم أن المصدر الحقيقي للسعادة موجود في داخله. هذه الفكرة تجسدها القصة التالية: «كان ثمة رجل عجوز جالس عند مدخل مدينة واقترب منه رجل غريب وسأله: «كيف حال أهل هذه المدينة فأنا لا أعرفهم؟» وأجابه الرجل العجوز بسؤال: وكيف هو حال سكان المدينة التي قدمت منها؟ فأجابه: «أنانيون وأشرار، ولهذا رحلت». وهنا رد عليه العجوز: «إذاً، مثل هؤلاء ستجد هنا». وبعد فترة قصيرة، اقترب غريب آخر من الرجل العجوز وقال له: جئت من بعيد فأخبرني كيف حال الناس هنا؟ فأجابه الرجل العجوز: كيف حال الناس في المدينة التي جئت منها؟ فأجابه الغريب صالحون ودودون، وعندي كثير من الأصحاب في تلك المدينة، وإني لأجد صعوبة في مفارقتهم. فابتسم له العجوز وقال: «إذاً، مثل هؤلاء ستجد هنا». وكان بائع جِمال يتابع المشهدين من بعيد، فاقترب من العجوز وقال له: «لقد قلت لهذين الغريبين أمرين متناقضين، فكيف فعلت ذلك؟» فأجابه العجوز: «لأن كلًا منهما يحمل عالمه في قلبه». إنّ نظرتنا عن العالم ليست هي العالم، إنما في تصوّرنا الذي كوّناه في أنفسنا عن العالم. حين يسعد رجل ما في مكان ما، فسيكون الرجل نفسه سعيدًا أينما حل. ورجل ما تعيس في مكان ما سيصير تعيسًا أينما حل.
ويأتي مثل هذا التصور عن السعادة على العكس من التصور السائد اليوم في المجتمعات الغربية نتباهى باستمرار بسعادة وهمية ذاتية الطابع ترتبط بالمظهر وبالنجاح، ويبيعون لنا باستمرار في الإعلانات سعادة لا تتجاوز في واقع الأمر الإشباع الفوري لحاجاتنا الأكثر أنانية. إشباع سرعان ما يزول تاركاً المزيد من الفراغ، ودافعاً إلى المزيد من الأوهام.
«لحظات من هذا النوع من السعادة هو السعادة»، أما السعادة التي لا تكون عابرة، إنما حالة مستمرة، غاية تتحقق عبر العمل والإرادة والكفاح. وفي الواقع، نحن نخلط بين اللذة والسعادة، نسعى أكثر وراء اللذات الآنية والزائلة أكثر مما نسعى لنيل سعادة حقيقية ودائمة.
اضافةتعليق
التعليقات