خلف تلك الابواب المغلقة حكايات تخفيها الجدران، وتحكم عليها النوافذ بالصمت، خوفا من كشف المستور، فلا احد يعرف ما يحصل عندما تغلق تلك الباب، في هذا اليوم فتحت لي احدى الابواب سيدة ثلاثينة العمر لتقص علي مايجري وراء الكواليس، على حد تعبيرها تقول: امام الملأ أمثّل دور السعيدة والملكة، وعندما اعود الى الدار واغلق الباب اعيش حالة من التعاسة والحزن، لست من النوع الذي ينافق لكن اعلم جيدا عن المجتمع وماذا سيقال عني، لذا اتصنع السعادة ولا اظهر ما اعيشه. حكاية لا اعرف من اين ابدأ ومتى انتهي، فلعل قصتي تكون سيناريو مناسب لهذا العصر، منذ صغري وانا أشعر بأنني اختلف عن بقية الفتيات، والدي كان سيئا جدا حتى انني تمنيت موته عدة مرات، ودعوت الله ان ينهي عمره في احد الاعياد، أغلب الاولاد يعيشون حياة سعيدة بوجود الاب والام، الا انا، ابي لا يعرف الليل من النهار، فكل ما يعرفه هو الضرب والشتم، يشرب الخمر ويطلب مني ان اعمل حتى اجلب له المال، امي كانت تتذمر من ابي كثيرا، تركتني وذهبت الى بيت خالي، وبعد فترة طلبت من ابي الطلاق، ابي يفعل كل شيء من اجل المال وعندما دفع خالي مبلغا من المال مقابل الطلاق وافق ابي فورا واشترى بالاموال منكرا..
لا يعلم بحالي ان كنت جائعة او مريضة، خلعت ثوب طفولتي، ودخلت في عالم لا يشبهني، تركت الألعاب والحلوى، وكذلك الفرح، وبدأت في طهو الطعام لي عندما كنت جائعة جدا حيث بدأت بالارتجاف من شدة الجوع، في الدار لاشيء غير الطماطم، قطعتها كما قطعت الايام طفولتي، ورميت بها الى النار كما رمتني امي، الخبز كان لايؤكل، اوجع ضرسي كثيرا، لكنني تحملت من اجل ان لا اموت من الجوع، كنت أشعر بحزن شديد، وانا انظر الى بنات الجيران وهم في احضان عوائلهم، وكنت أحبس دموعي وحسرتي خوفا من يد أبي، واحلام قد ماتت في صدري..
جاء ابي ذات يوم ومعه رجل كبير في العمر محدب الظهر معصوب الرأس، وطلب مني ان اذهب معه الى داره لانه طلب من ابي ان يتزوجني مقابل ان لايدخله السجن، وكعادته وافق ابي، لم استطع ان اقول لا، او انني لست موافقة، ارغب ان اخرج من هذه الدار ومن جلباب ابي وان كان الثمن الزواج من هذا الرجل، قبلت وجرى العقد وذهبت في ليلتها الى دار الرجل، ذلك اليوم الذي بقي خالدا في ذاكرتي، ويغتالني شعور لا يوصف عندما وقفت امام تلك البوابة الخشبية المزخرفة، والجمال المعماري العظيم، شعرت في وقتها انني في حلم، سحبت خصلة من شعري حتى افيق من نومتي، لكنني لم اكن احلم ابدا.
دخلت في عالم بعيد عن ابي، عن ضربه، كل سيئاته، الرجل الكبير عاملني معاملة حسنة، لكنه لم يعاملني معاملة الزوجة، كان يردد كثيرا، اباك البائع وانا المشتري، كانت هذه العبارات تغتال حياتي، بل تذبحني، جهز لي حجرة صغيرة بجانب المطبخ، وطلب مني ان اخدم زوجته الكبيرة في العمر، لاول مرة اتذوق الطعام الجيد وارتدي الملابس الجميلة، ولم اتذوق طعم السعادة، امام الناس يعاملني كزوجته وخلف الباب كنت جارية مدفوعة الثمن، يدفع لي مقابل خدمتي لزوجته مبلغا من المال، وعند اول الشهر تأتي امي التي لم تعرفني من قبل وتجلس لتأخذ مني المال، وابي يأخذ ما تبقى.. انهدم قصر احلامي، كانت مشكلتي الكبرى هي أن من حولي لا يعرفون عن عائلتي الا الخير، وانهم اغنياء، وكنت أشعر بالألم الشديد عندما يتحدث الرجل الكبير عن عائلتي امام الناس وانهم من أشهر العوائل وافضلهم، بينما أذوب أنا خجلاً عندما ينظر لي وهو يحدثهم، فأشغل نفسي عن نظراته، هكذا انا في الخارج ملكة وصاحبة الجاه، وفي الداخل الجارية الفقيرة..
لا املك خيارا اخر، اما ان اعود الى جلباب ابي وقساوته، او ان اتحمل اعباء هذا البيت، للعيش ما بقي من عمري في مكان امن لا يصله الحرام، فرغم اني جارية هنا لكنهم جعلوني ارتدي الملابس الجيدة واتذوق الطعام الجيد وانام على السرير فهذا ماكنت اتمناه في بيت ابي ان اعيش حياة كريمة من دون تجارة او خسارة.
لكن هذه هي الحياة تجري بنا نحو الهاوية، بعد سنوات مات الرجل الكبير أثر نوبة قلبية، وعوضني الله عن صبري وفناء شبابي في خدمته، ونلت من الوراث نصف ثروته، وبقيت في الدار بعدما رحلت السيدة زوجته بعد موت زوجها بعدة ايام، تغيرت ملامح الايام وبدأت تظهر لي شمس الحرية من جديد، وامتلكت امري بيدي، حاول ابي مرارا ان يصل لي ويسرقني، ومرة عرض بيع الدار من دون معرفتي ولولا وجود اهل الخير لرجعت لتلك الحياة البائسة، لكن مشيئة الله ارادت ان ابتعد عن سكة الحرام، واعيش في ثوب الطهارة والعبادة..
هذه هي حكايتي، ثلاثون عاما انقضت بهذه الدار وخلف هذه النافذة، لو نطقت الجدران لقالت لكم عن خبايا اهلها فليست كل القصور يسكنها الامراء، فقد يسكنها الفقراء اصحاب القلوب الجائعة، جائعة الحب والحنان، تفتقد من يطعمها رغيفا من الامومة..
اتركوا المظاهر، رغم اسوداد الفحم الا انه يحمّر على حرارة النار، كذلك البشر، كلما تعرض للحرارة الايام تغير لونه، المشكلة فينا وليست في الزمان، وكما قال الامام علي (عليه السلام):
نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب.. ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب.. ويأكل بعضنا بعضا عيانا..
اضافةتعليق
التعليقات