أحب الكتابة، أكتب في مجالات الأدب المختلفة، وقبل مدة قليلة نسبياً تحليت بالشجاعة أخيراً لأقول إني "كاتبة".
عشتُ وأعيش وسأعيش دائماً كإنسان وكشخص يكتب، لم يخطر يوماً ما إنني مختلفة، وإن كان هناك تعريفاً آخر أعرف به نفسي.
حتى اصطدمت بقيم هذا العالم المعتوه والفوضوي وعرفت إن هناك تعريف آخر مفروض علي، يقيدني، يحرمني هنائي ويعيد تعريفي كإنسان وكشخص يكتب، بل ويدمجمهما معاً، ويسلب مني الكثير من خصائص ومساحات كل منهما.
أنا كاتبة، هناك تاء تلي كلمة كاتب، بداية ظننته أمراً عاديا يدل على النوع الاجتماعي فقط، ولا يرتبط بما أكتب، لا علاقة له برؤاي الإبداعية، وآفاق الخيال التي أسير تأخذني إليها في ساعات الإلهام، ويا لي من مخطئة.
كاتبة أنثى، هذه الحقيقة التي أراد لي العالم أن أراها، كانت قضباناً ثقيلة رُميت علي بغتة.
أعلم أني أنثى، نعم، هذا بديهي لكنني إنسان لا محدود، مبدع مفكر يحمل خيالاً وفكراً وشعوراً، لدي حق بأن يحصل نصي على استقبال عادل ومنصف من قبل قرائه.
عندما يستقبل القراء نصاً لامرأة لا ينظرون للنص على أنه نص مجرد، ينظرون للمرأة التي كتبته، يسمحون لأنفسهم بتحليل تجاربها وأفكارها وتأريخها الشخصي، يطلقون أحكاماً كأن ذلك حقيقة مطلقة ويقاضوها وفقاً لتلك الأحكام، شخصيتها تعرِّف النص، لا تنفصل، النص هي وهي النص، وكم ذلك مكبل للخيال والعملية الإبداعية برمتها.
يُثنى على بعض النصوص أكثر مما تستحق لأن كاتبتها امرأة، وكأن الأدب قطعة حلي تزينت به صاحبته، وتجد أكثر الأحكام قسوة طريقها إلى بعض الكاتبات لأنهن قررن أن يخضن في عوالم الخيال وبحار الفكر بجرأة وشجاعة، لكل كلمة تفسير ما وغاية شريرة تنطوي عليه ذاتها الآثمة بأنثوتها.
هناك قوالب نمطية معينة فقط توضع فيها الكاتبة وفي نطاقها المحدود يسمح لها أن تتحرك دون إزدراء حتى لو لم تكن هذه القوالب هي ما يميل لها هواها وتحلق فيه أفكارها، فالكتابة إثم وخطيئة للنساء وبوابة للولوج إلى أعماقهن القابعة في جحيم الردى.
لقد اتفق العقل الجمعي منذ وقت طويل على أن الكاتب بطل إن سمح لاحساسه أن ينساب على الورق ولخياله أن يكسر الحجب، والمرأة في خانات الريبة والشك في اللحظة التي تسمح لمكنونات نفسها بالانطلاق عبر ما تكتبه ولخيالها بالولادة والنمو إلى جانب رأسها، بل إن أي ما تنبعث منه رؤاها الحساسة هو موضع تساؤل يطالها ليس ككاتبة فحسب بل يقتحم حياتها الخاصة ويوصم شخصيتها الفذة.
هذا التطرف لا ينال الكاتبة من العامة فحسب، بل يظهر بصورة أكبر في مجتمعات النخب المثقفة وإن كان لا يظهر على أنه تطرف.
تميل مجتمعات النخب المثقفة إلى إيلاء عناية استثنائية شكلية إلى الكاتبات الإناث، فلا تحصل الكاتبة على الدعم الحقيقي ولكن على الثناء المبالغ الذي يفسد الإبداع ويضلل هدى أي كاتب وينصب القسم الأعظم من ذلك الثناء على نوعها الاجتماعي "أنثى" وليس على حقيقة ما تكتبه، ويتحاشى السواد الأعظم إعطاء نصيحة حقيقية، مما يجعل الكثير من الكاتبات متوقفات في مكانهن يراوحن دون جديد، وشيئاً فشيئاً يعتدن على ذاك العي من الكلام، ويحطن أنفسهن بجدران سميكة ضد النقد البناء فهن لا يعرفن شيئاً غير المدح فلا نخب تناقش النصوص نقاشاً حقيقياً مبنياً على أدوات الإبداع، ولا إبداع حقيقي دون إرشاد وتوجيه.
إن أي كاتب حينما يكتب هو يحاول رفع صوته عالياً لاستعادة حريته بعيداً عن أي قيد أو تعريف وضعه العالم له سالباً حريته.
لا يوجد في تأريخ الأدب ولن يوجد نص يعود لامرأة، لا وجود للأدب النسوي، هناك فقط الأدب الإنساني الذي نكتبه جميعاً من منطلقاتنا المختلفة، وآرائنا المتباينة، ومشاعرنا المتأججة، وخيالنا الوقاد، وحيواتنا الفريدة، رجالاً ونساءً، شباباً وكهولاً، وشرقاً وغرباً لنعبر عن المراحل التأريخية التي نمر بها، تصنعنا ونصنعها، ونترك ما يدل على وجودنا إرثاً للأجيال.
اضافةتعليق
التعليقات