يبلغ الإنفاق الإعلاني العالمي راهناً حسب تقديرات الخبراء حوالي 620 مليار دولار سنويا، أي ما يقرب من ضعف الدخل. وهو مرشح إلى التزايد كي يصل، تبعاً لبعض التقديرات، إلى حوالي 1000 مليار دولار عام 2000. ولا زالت المنطقة العربية تعتبر عموماً متواضعة مقارنة بالدول ذات الكثافة الإعلانية. ولهذا فإن العاملين في هذا المجال من العرب يشحذون قواهم لزيادة الإنفاق بما يتمشى مع المستوى العالمي.
وكأن هناك تأخر يجب تداركه كما هو شأن الصناعة أو التعليم! ويتحدث هؤلاء عن مؤشرات مشجعة لتوسع السوق الإعلانية العربية. وكأن هذا العالمي من النفط التوسع هو برهان على دخول العرب في اقتصاد السوق ومنافسته.
أصبح الإعلان صناعة تقوم على أسس فنية وعلمية، وتعمل فيها فرق متعددة الاختصاصات وهي تعرف قوة وفاعلية متزايدتين لهذا السبب يدخل فيها كل علوم التأثير، ابتداء من مبادئ الإحساس والإدراك والتنبه والمؤثرات الصوتية واللونية والحركية والإيقاعية.
وفي الإعلان تمارس أكثر درجات التقنية التلفزيونية تطوراً كي تأتي الرسالة الإعلانية مكثفة قوية مؤثرة فاعلة تخترق الوعي مباشرة، وتتراكم في الذهن بدون حاجة إلى تأمل وتحليل، المهم الانفعال بهذه الرسالة والاستسلام لها ولآثارها. ومن أجل ذلك توظف شركات الإعلانات العالمية الخبراء في علم النفس والتحليل النفسي والأنتربولوجيا وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع لدراسة دوافع الجمهور وسلوكاته وعاداته وقيمه وتفضيلاته، ونقاط مقاومته ونقاط تجاوبه. كما تدرس تأثير الجماعة وضغوطاتها والمحاكاة التي قد تتحول إلى عدوى. من خلال هذه المعرفة الدقيقة تقدم الإعلانات كي تجد منافذ التقبل مفتوحة أمامها، وكي تتجنب الاصطدام بنقاط المقاومة.
نحن إذاً في صناعة الإعلان المتقدمة إزاء الاستخدام الأكثر شغلاً وكثافة لتقنيات التأثير وعلومه. ومن المعروف أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل هو يتجاوزه لعقد جلسات التفاكر العصف الذهني، حيث تقوم جماعة من الخبراء بإطلاق العنان لخيال أعضائها كي تولد الأفكار الأكثر طرافة وجدة، وإمكانية تأثير ونفاذ، أو خروج عن المألوف، كي تصاغ في إعلانات مشغولة عن مختلف السلع.
كل هذا يشكل تطورات متجددة لأساسيات علم الإعلان الحديث الذي يقوم على مبادئ تعديل السلوك والتأثير فيه. المرتكز الأساسي في هذه المبادئ هو مبدأ الترابط الذي قالت به السلوكية. فالسلعة ذات الطبيعة المحايدة، أو قليلة الجاذبية، تربط بشكل أو بآخر بموضوع أو موقف أو شيء ذي جاذبية عالية للمستهلك.
ومن خلال هذا الاقتران تكتسب السلعة (موضوع الإعلان) قيمة استهلاكية وخيالية ووجدانية ليست لها بالأصل البيبسي تركز مثلاً، إضافة إلى جمال الصورة واللون والإيقاع الذي يفتح الشهية ويثير الإحساس بالعطش والدافع إلى الشرب لإرواء هذا العطش، إضافة إلى هذا البعد الفسيولوجي، تركز أساساً على الشباب ومرح الشباب. ومن هنا أصبحت تعتبر مشروب الشباب. وبرزت منه تسمية الشباب الراهن عالمياً باسم جيل البيبسي. يربط في الكثير من الإعلانات عن البيبسي بين هذا الشراب وبين موقف شبابي فيه مرح، أو مغامرة، أو دعابة أو إثارة وفي كل الأحوال هو موقف يبدو أن الشباب فيه متميزون بانطلاقتهم هؤلاء المتميزون يشربون البيبسي.
ويصبح هذا الشراب بالتالي هو شراب الشباب المتميز. فكيف يمكن مقاومة هذه الحالة إذا كان كل شاب بحاجة إلى الإحساس بالتميز، الإحساس بأنه يعيش دنياه بضحك ولعب، وفرح ومغامرة؟! الكوكاكولا تربط بالبطولات الرياضية والملاعب العامرة بالجمهور والمباريات الحاسمة والتي تثير الحماسة الجماهيرية منقطعة النظير.
لا عجب إذا أن تكون شركة الكوكاكولا هي معلن عالمي في مجال الرياضة وأكبر ممول للمباريات. أكبر أما السجائر، وعلى عكس آثارها الضارة والتي يشار إليها بشكل خجول ومطموس في أسفل الإعلان، فتربط بالقوة والرجولة والمغامرة والفروسية في بلاد وبراري تربية الأحصنة، أو في سباق الدراجات النارية ذات القوة والضجيج والتأثير، أو سباقات السيارات، أو أنواع المغامرات الأخرى وتكتسب السيجارة بذلك دلالات هذه المناسبات ذات الحيوية الجسدية الخارجة عن المألوف.
وتأتي كمكافأة على المغامرة والظفر فيها بعد مطاردة، أو كسب سباق أو هي تأتي لتتوج متعة المحظوظين في الليالي الحالمة على يخت في وسط البحر والحسان. وهكذا تربط العطورات ومساحيق الجمال بالحسن وملكات الجمال، أو المميزات فعلاً في الجاه الاجتماعي. وكل امرأة تريد أن تكون مميزة بالطبع، مما يجعل شراء العطر هو الطريق إلى تميزها.
وأما أغذية الأطفال فإنها تربط بالطفل المدهش جمالاً وصحة وانطلاقاً وسعادة. وهكذا فسيكولوجية الإعلان تقوم على بيع الأحلام، ودغدغة المشاعر وإثارة الرغبات من خلال مختلف أشكال الربط ما بين السلعة والصحة أو الجمال، أو الجاه، أو الشباب أو الحظوة، أو المغامرة، وهو مما لا تسهل مقاومته.
ويتعزز التأثير الإعلاني من خلال ما يسمى بمبدأ الإغراق الإدراكي تتكرر الدعاية مرات ومرات بنفس السياق، أو بسياقات مختلفة. والثاني أفضل وأكثر تأثيراً حتى أنها لتحاصر المشاهد بدون أن يدري ذلك أن الإعلان المكثف أو المشغول والذي ينفذ مباشرة إلى الذهن مفلتا من التحليل والنقد ومتوسلا الإنفعال والتأثر يؤدي إلى تكوين شبكات عصبية في الدماغ خاصة به.
هذه الشبكات، كما هو شأن كل استيعاب وكل تعلم، تصبح قنوات جاهزة تمر فيها المثيرات عندما يتعلق الأمر بإشباع حاجة ما. شبكة البيبسي هي التي تنشط حين إحساس الشباب بالعطش. وهكذا يميل المستهلك عفوياً إلى التوجه لشراء السلعة التي حدث إغراق ولأحاسيسه بها. وهو ما يعرف في علم نفس الإدراك باسم مبدأ صدارة الانطباع.
فكل مثير جديد ينتمي إلى موضوع ما، يحرك الانطباع الذي أصبح مشبكاً عصبياً. وهكذا يُربط إشباع الحاجة عفوياً بما تم الترويج له. ولقد تم التحقق من ذلك تجريبيا. إلا أن الإعلان يذهب أبعد من ذلك حيث يثير أكثر الهوامات المتعلقة بالرغبات واللذائذ، والحاجة إلى صورة ذات مميزة. وبالتالي فهو يكاد يحدد لنا هو يتنافى مجال معين: أنت مهم بالطبع لأنك تستهلك سلعة كذا ومنها أبعد من ذلك، إذا كانت تريد أن تكون مهماً فعليك بسلعة كذا كي تدخل فئة المميزين أو المحظيين. وتذهب الإثارة اللا واعية التي تفلت من التحليل والنقد، أبعد من هذا كي تطرح التحدي: هل يعقل أو هل يجوز ألا تكون مهماً؟ فأنت لم تستهلك هذه السلعة بعد! فمن يقاوم؟ إنها القلة غير الراغبة، أو الكثرة غير القادرة على أن هذه الأخيرة ستعاني بشكل دفين من مرارة الإحباط وعسر الحال. وهو ما قد يفتح الباب أمام الغواية والإغراء بالمرور إلى الفعل بكل السبل حتى غير المشروعة منها.
اضافةتعليق
التعليقات