إن مفهوم الترويض كما هو معروف في تدريب الحيوان، هو تشكيل سلوكه الغريزي بحيث يؤدي الحركات والتصرفات والمهام المطلوبة منه، ويصل الأمر حد استئناس بعض الحيوانات البرية من خلال هذا الترويض الذي يتوسل تقنيات تعلم معروفة، وما يجرى من تشكيل لسلوك الناس في نظم الاستبداد والطغيان بحيث تخضع لتوقعات السلطة، وتستجيب تبعاً لرغباتها، وتتوجه نحو أهدافها المرسومة هو نوع من الترويض للإنسان يخضع للمبادئ والتقنيات نفسها، مع فارق في المستوى بالطبع. فترويض الحيوان يتوقف عند سلوكه الحركي لأداء مهام ووظائف مطلوبة. أما ترويض الإنسان في هذه الحالة فيتجاوز السلوك الظاهري/ الحركي وصولاً إلى تشكيل الإدراك والأفكار والقناعات والعواطف، بحيث يمثل امتلاك الإنسان من الداخل، وعلى مستوى الوعي الذاتي والخبرة أعلى مراحل التحكم.
ولقد قدمت لنا المدرسة السلوكية Behaviorism في علم النفس مبادئ التعلم المعروفة جيداً من قبل دارسي هذا العلم، والتي تأخذ تبعاً للعلماء تسميات مختلفة أشهرها التعلم بالاقتران الشرطي تبعاً لأعمال بافلوف الشهيرة والتي عرفت استخدامات واسعة جداً في ترويض الجماهير، وغسيل الأدمغة والحرب النفسية، والإعلانات. ويوازيها في الشهرة أعمال سكنر في التشريط الإجرائي التي احتلت نجومية المسرح في مجال التعليم لما يزيد على نصف قرن.
أما الاقتران الشرطي فهو يشكل المبدأ العام للتعلم تبعاً لبافلوف وتابعيه؛ حيث يتعلم الكلب في التجربة التي أصبحت كلاسيكية أن يستجيب لمثيرات محايدة في الأصل من مثل الضوء، أو صوت الجرس بالاستجابة نفسها لمثيرات طبيعية مثل الطعام أو الصدمة الكهربائية، وذلك من خلال الاقتران الشرطي للمثيرين. وهكذا يتعلم الكلب الاستجابة بإفراز اللعاب (وهي استجابة فطرية لتقديم اللحم) لظهور الضوء الذي يرافق تقديم الطعام أو يسبقه بثوان معدودات بحيث يصبح الضوء مقدمة للحصول على الطعام، ويتهيأ له الكلب بإفراز اللعاب.
وإذا اقترن صوت جرس كهربائي بصدمة كهربائية على ساق الكلب في المختبر، فإنه سيتعلم الاستجابة لصوت الجرس باستجابة الإجفال والاضطراب نفسه الذي تثيره الصدمة.
هذا المبدأ العام في الاقتران الشرطي هو المتبع في الإعلانات حيث تربط سلعة ما يراد ترويجها بحسناء فاتنة فتكتسب قيمة ودلالة هذه الحسناء، وتصبح مرغوبة مثلها. أو كما تربط الكوكاكولا والبيبسي بمباريات كرة القدم وحماسها، وحماس الشباب ومتعته فتكتسب دلالة إيجابية حماسية بدورها. وهو المبدأ ذاته المستخدم في غسيل الدماغ وعمليات التعذيب، وتشكيل الميول والسلوكات على المستوى السياسي والعسكري والأمني.
وأما الإشراط الإجرائي الذي طوره العالم سكنر فيقوم بدوره على مبدأ جد بسيط بدوره في التعلم، إذ يقول «إن السلوك تحكمه توابعه أو نتائجه». وعليه فإذا أردت أن تتحكم بأي سلوك، ما عليك سوى التحكم بنتائجه، فإذا أردت لسلوك ما أن يتكرر عليك أن تجعله يؤدي إلى نتيجة إيجابية (مكافأة). وإذا أردت أن توقف سلوكاً ما أو تطفئه، ما عليك سوى أن تجعله لا يؤدي إلى أي نتيجة، أو أشد ذلك أن يؤدي إلى نتيجة سيئة أو مؤلمة أو مكلفة، وما دمت تملك ناصية النتائج والتحكم بها، يمكنك أن تتحكم بالسلوك ذاته كما تشاء. وهذا ما أطلق عليه تسمية تكنولوجيا السلوك.
وله بدوره تطبيقات كبيرة وخطيرة في التعلم، وفي العلاج، كما في الترويض والإخضاع السياسي والأمني. انطلاقاً من هذين المبدأين العامين جداً نأتي إلى عمليات التحكم التي تمارسها أجهزة التسلط والاستبداد، بناء على الإجراءات التقنية التي طورتها هذه المدرسة بشقيها الاقتراني والإجرائي. نأتي على ذكر أكثرها عمومية فقط، إذ إن الدخول في تفصيلاتها يحتاج إلى أعمال قائمة بذاتها.
اضافةتعليق
التعليقات