تنحنحت أوراق العنب بأول مغازلة من نسیم الصباح وراحت تترنح لتسمح بتراقص النور المنبعث من أولی شعاعات الشمس، یجتاز احتیالاتها الملیحة.
استیقظ جمیل مبكراً كعادته ورفع ستائر الغرفة المنسدلة من أعلی السقف وصولاً لأسفل نافذة ال pvc الحدیثة التي غیرها مؤخراً، بدت شفافیة الزجاج فیها مضاعفة، یحیطها إطار أبیض بملمس ناعم كبیض الحمام.
راقت لي فكرة تغییر دیكور المنزل التي اقترحها جمیل .
كانت غرفتي متوسطة في اتساعها تشغلها منضدة من الخشب البني، مرصوفة في الجانب الأیمن، یقابلها تماماً السریر الذي تحدوه من الجانبین طبلتان؛ یشغل احداهما مصباح من النوع الفاخر، مقبب من الأعلی ومثبت فوق أسطوانة خزفیة مزینة بنقوش لنباتات وحیوانات فلكلوریة ملتویة بانسیابات غریبة وملونة بألوان فاقعة حیناً وباهتة حیناً آخر؛ أهداني إیاه زوجي في عید الحب المنصرم .
كنت أخالفه في بعض اعتقاداته إلا أنه یمازحني باقتناء هدیة في كل مرة متحججاً بقوله: طبع الكرام قبول الهدایا وقد قال الرسول {ص}: تهادوا تحابوا .
أومأت في المرآة المنتصبة أمامي كضابط یؤدي التحیة .
لم أتفاجأ أبداً، فقد نظرت في هذا الوجه طیلة ثلاثین عاماً من السنین المتعاقبة بحلوها ومرها ولا اعتقد أن الآتي سیختلف كثیراً عما مضی .
عملت موظفة في دور رعایة المسنین وقد قضیت في مهنتي أكثر من سبعة أعوام، رأیت فیها العجاب .
لم أنس یوماً أم سالم المقعدة التي جاء بها ابنها في یوم خریفي ماطر، وقد خالطت أنفاسه النتنة؛ الرائحة الزكیة المنبعثة من رذاذ المطر في الباحة وهو یقول: سوف أدفع لكم كل ما تطلبون إلا أنني ضقت ذرعاً من تحمل هذه الكتلة المریضة.
سوف لن أنسی أبداً ابتسامة الحاجة أم جاسم ووجنتها اللامعة بإشراقتها المفعمة بالحب والحنان في كل یوم وأنا ألقي علیها تحیة الصباح.
فقدت الأخری ابنتیها في حادث سیر ولم یبق لها أحد في مواجهة أنیاب الدنیا ومخالبها.
في لحظة صمت صعقت بخاطر اقتحمني وهامَ بي في تیه سحیق؟!
لماذا نتعب في هذه الحیاة الملونة القاسیة الممتلئة بأحراش الشوك؟!
هل یا تری أولینا الأمور اهتماماً بالغاً أم قصرنا في أدائها ورحنا نتأرجح بین الإفراط والتفریط من غیر درایة؟!
أترانا اهتممنا بالمهم فضیعنا الأهم؟!
بالنسبة لي وأنا أم لماذا علي أن أفنی لیربی ولداي إن كان الدهر سیأخذهما مني في لحظة قدر مشؤوم؟!
ما أدراني ألم يحدث هذا مع أم جاسم؟
ألم یرم الزمان بأم سالم في حجر المأوی الحزینة بعد أن قضت كل عمرها في رعایة ولد لم یستحق سهرة لیلة واحدة من لیالیها اللیلاء؛ في جوف صحاري البرد وقیظ الحر؟!
انتشلني من بحر أفكاري المتلاطمة صوت جلبة العمال في الطابق الأرضي، وقد راحوا یتباحثون حول جودة الأصباغ الحدیثة وصنوفها اللامتناهیة .
بدت خطوات جمیل تقترب أكثر فأكثر، وهو یصعد الأدراج متوجهاً ناحیة الغرفة، فتح الباب وهو یرمي بابتسامة ملأت شدقیه واستفاضت في وجهه، قال بحماس:
ها أنت حبیبتي لقد استیقظت أخیراً. ما رأیك باللون الأبیض لغرفة الجلوس؛ ألیس جمیلاً؟
بالطبع إنه رائع، یمكن أن نضیف علیه بعض اللمسات في الزوایا والأعمدة، وتزیینه ببعض الأحجار والاقتراحات الحدیثة لمتخصصي الدیكورات، لم لا نستشیر أحد الاختصاصیین في هذا المجال؟
أجاب بإیماءة مغریة: إنها فكرة لا بأس بها .
رأیت في عینیه دافعاً وعنفواناً ووهجاً أضاء كل دهالیزي المظلمة .
الحیاة هي هي، بتموجاتها العرجاء حیناً وسكونها الصافي حیناً آخر، ولا سبیل سوی التخبط فیها والتزود من طیفها المتلون بذكاء وحنكة .
قد تبدو بعض التفاصیل تافهة كنمو أوراق جدیدة في السندانة، أو ملاحظة فراشة أضاعت الطریق فدخلت المنزل لتحط علی اللوحة الفنیة التي تربعت في منتصف الجدار لتكسر غطرسته وجموده؛ إلا أنها كالنَفَس الذي یذهب ویجئ علی عجالة دون تریث لیبعث الحیاة حاثاً القلب علی الصخب والإنتفاضة .
یسیر القطار وتستمر المسیرة شئنا أم أبینا، یزهر الیاسمین وتصطخب الرمال وتموج البحار وتفوح الورود بعطرها ویصرخ الأطفال ویلعبون ویرسمون ویقفزون كالغزلان لیدوسوابأقدامهم أساطیر الفناء والموت... ولا بد للغیث أن یهطل وإن طال الأمد.
اضافةتعليق
التعليقات