يقول الإمام السجاد سلام الله عليه : (واستصلح بقدرتك مافسد منّي).
إن من هوادم الحياة عامة، وضياع الفرد؛ الفساد في جميع صوره وأشكاله وأنواعه، وهو سبب كل نقمة وأساس كل بلية، وعنوان كل شقاء. والفساد كلمة ذات مدلولات واسعة ومتعددة، وقد تعني فساد الفرد أو الجماعة، أو الفساد المادي بمدلوله العام والواسع، أو السرقات الفردية والجماعية التي تشكل تجاوزاً خطيراَ على حقوق الآخرين.
نريد أن نتحدث عن أشدّ أنواع الفساد، هو فساد الذات أو النفس، وهو ما لا يتعلق بالجانب المادي بقدر ما يتعلق بالجانب الروحي، لهذا يتوجب أن يكون العلاج روحي ايضاً. فالفساد في الأرض إنما ظهر بسبب ذنوب العباد، ومعاصيهم، ومخالفتهم لشرع ربهم، ولو استقاموا على الهدى والحق لنالوا الخير. ومن المقرر شرعا: أن الإسلام دين ودنيا، عقيدة وشريعة وأخلاق وسلوك ومعاملة، وأنه جاء ليصلح الدنيا، ويهدي الناس إلى سبل الخير والفلاح في الدنيا والآخرة.
بين سماحة آية الله الصادق الشيرازي دام ظله في كتابه الموسوم "حلية الصالحين" مفهوم دعاء الإمام السجاد "عليه السلام" وهو يطلب "من الله تعالى أن يتدارك أمر الإصلاح بقدرته. وهذا الطلب يوحي أنّ هذا المجال {أي إصلاح مافسد من الإنسان} صعب جدّاً، بحيث يتطلّب تدخّل القدرة الإلهية. فكلّ منا يمكنه أن يكون من خيار الناس، كما يمكن أن يكون من شرارهم - والعياذ بالله - فهؤلاء الأشرار الموجودون في المجتمع والذين بقوا كذلك حتى آخر عمرهم كانوا أناساً أيضاً، ولكنهم لم يريدوا الصلاح، ولا استعانوا بقدرة الله تعالى لإصلاح مافسد منهم فاستمرّوا على ماهم عليه.
لذا إن الإنسان بحاجة إلى الدعاء والتوجه لله في استصلاح نفسه. وهذا معنى قول الإمام" علي بن الحسين عليه السلام ": {واستصلح بقدرتك مافسد منّي} . هنا وضع الإمام نفسه في مكان السائلين ليبيّن فداحة الأمر لنا) . وكل الآيات التي تذكّر الفساد تكون بين نهي وتذكير، عن بشاعة الفساد وأثره على المواطن والأمة.
قال سبحانه وتعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) كلها آيات بيّنات تحث الناس على اجتناب هذا المنكر، سواء في القول أو الفعل، وحاربه الإسلام محاربة شديدة وتوعد المفسدين بالعذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة.
ولأن الفساد ينخر المجتمعات وهو سبب من أسباب تأخر الأمم لما يتبعه من آثار هدم لمؤسسات الدولة وقتل المبادئ الأخلاقية للإنسان من الداخل، ربما لا تظهر آثاره بسرعة، وقد يتلذذ العاصي بالمعصية، وينتشي الظالم بما يقوم به من قهر للآخرين وحرمان من الحقوق وتعدٍّ على الممتلكات ولكنه لا يدري ما يخبّئه له القدر، وما يبتليه الله، وما يحصل له في قادم الأيام كما حصل لبقية الأمم.
يقول قائل لقد أودع الله فينا تلك المشاعر والأحاسيس والغرائز، والنفس امارةٌ بالسوء ونحن بنو البشر ضعفاء؟! و يعد هذا القول منافياً مع كتاب الله فقد اودع الله تلك المشاعر والغرائز، والأحاسيس ليعيش المرء مستمتعا بحياته وأحواله، دون الإضرار بغيره من البشرِ، ولذلك لم يُترك له حرية التصرف وإطلاق العنان للشهوة والغريزة بل ضبطها الشارع وقيّدها وفق منظومة من الشرائع والأحكام التي تربّي النفس وتزكّيها وتبعدها عن الطمع والجشع والخوض في تجارب حيوانية من شأنها أن ترسخ مفهوم القوّة والغطرسة، وتقضي على كل قيمة عالية ومبدأ سامٍ. والفساد ملة واحد فليس هناك درجات واختلافات. هناك محظور وآخر محبوب. وآخر باتَ ضرورة لتمرير مصالح معينة، لأن الفساد معاملة لا أخلاقية تربط النتيجة بالمصلحة الشخصية فوق كل اعتبار، واستجابة للشهوة والغريزة فوق كل حساب.
لذا من الأجدر أن يحاسب الشخص نفسه ويصحح من اعماله ويراقب ذاته فالذي يتمادى في خطئه ويحرص على تحدي الخالق عز وجل سواء بالاستهزاء من حكمِه أو الاستخفاف بشرعِه، أو تجاهل عذابِه، فإن الردّ الإلهي قادم لا محالة عاجلا أو آجلا، ولن يكون أحد بمنأى من عذاب الله. قد يخطئ الإنسان وهذا وارد جدا ولا يعاقَب على خطئه قبلا يأتي التذكير بالأمم التي أصابها العذاب بعد أن أصرّت على المعصية، وبعد أن عارضت أنبياءها، واستمرأت المعصية واستخفت بالكتب المنزلة.
فهناك فسحةً ووقت للتأمل والمراجعة والمحاسبة، ثم يأتي النهيُ الشديد وبيان آثاره المدمرة على الفرد والمجتمع، فإذا تاب الإنسان من ذنبه قبِل الله توبته، وإذا تجاهل كل ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه مما أصابه وما سيصيبه، لأن الله تبارك وتعالى يُمْهل ولا يُهْمل.
سبل مواجهة الإفساد:
كان من أسباب التفاف الناس حول الإسلام : المواظبة الشديدة لدى المسلمين على محاسبة النفس والرقابة النفسيّة، فقد التزم المسلمون بهذه الصفة الحميدة (محاسبة النفس)، لأنّ دينهم دعاهم إلى ذلك، فالمسلمين كانوا نموذجاً في أمانتهم وصدقهم وصحّة عملهم، ولذا التفّ الناس حولهم، إذ الإنسان يحبّ بفطرته أن يتعامل بثقّة وصدق وأمانة. وتلك الصفات السامية لا تتوفّر عبر القانون، ذلك لأن القانون ظاهري فقط، والشرطة تحمي الظاهر من الأمر، أمّا الباطن فالأمر يحتاج إلى رقابة نفسيّة يقظة، وهي لاتحصل إلاّ بالإيمان بالله السميع البصير. أما اليوم فقد انسلخ المسلمون على الأغلب من محاسن الصفات، ومكارم الأخلاق، ولم يراعوا حتى التظاهر به، وقد أخذ العرب ببعضه، ولذا ابتعد الناس عن المسلمين والتفوا حول الغرب. فالصلاح والإصلاح ومحاربة الفساد والإفساد طريق للعزة، وسبيل للكرامة، وعنوان للفلاح، وحفظ للشعوب، وكسب لمرضاة الله، وإن الحاجة إلى الإصلاح من الأمور الملحة في حياة الفرد والأمة.
فالبعد عن الأهواء والرغبات الشخصية من طرق الإصلاح، قال تعالى: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ [71: المؤمنون] ولذلك لم يكل الله الناس إلى أهوائهم ورغباتهم بل رسم لهم طريقاً يسيرون عليه في حياتهم وهو ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، فتضمن هذا الطريق صالح البشرية إلى أن تقوم الساعة؛ فلا صلاح ولا إصلاح إلا باتباع هذا الطريق المرسوم. الذي يقتضي العقل والعدل والحكمة حتى تثمر جهود المصلح، وتؤتي أكلها؛ لكن مع ذلك كله لابد لنّا أن نعمل ما في وسعنا لإصلاح أنفسنا وإصلاح المجتمع، مماعلينا الدعوة للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك قد أدينا التكليف الملقى على عاتقنا من قبل الله سبحانه وهو عزّ وجل ينصر العالمين، كما وعد بقوله تعالى : (إنْ تَنصُروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم).
وعلى المسلم أن يكون صالحا ومصلحا في مجتمعه، ونفسه، وبين أسرته، يسعى بكل ما يستطيع إلى إغلاق أبواب الشر والإفساد، ويسعى إلى كل خير. بل على المسلمين أن يسعوا لإصلاح قلوبهم، وإصلاح أعمالهم، وإصلاح مسيرتهم الحياتية سياسيا واقتصاديا وإداريا، إصلاحاً ينبعث من قلوب مخلصة، وأنفس مؤمنة، وأرواح زكية تسعى للإصلاح؛ انفس تدعو للإصلاح وتنادي به، لا تسعى للإصلاح وتنادي به، ويبقى مجرد شعارات جوفاء، ثم يمارس الفساد، ويعاقر الفسق، ويستمر الظلم، فأولئك عاقبتهم الخسران في الدنيا والآخرة. ولن ينصلح حال المجتمع الإسلامى إلا بقطع دابر الفساد، فلابد من إثارة روح التأمل ومحاسبة النفس والتفكر لدى الإنسان.
فأعظم جهاد هو جهاد النفس، وصيانتها من الزلل. ولايخفى على الجميع بأن إصلاح الفاسد، كما يؤكد المرجع الشيرازي بحاجة إلى الدعاء، (ولذلك يقول الإمام سلام الله عليه: واستصلح بقدرتك مافسد منّي)، (الصحيفة السجّادية، دعاء ١٣ في التوبة).
اضافةتعليق
التعليقات