يبدو أن هناك شيئا غامضا في قوى الذاكرة وإخفاقاتها وتفاوتاتها يلفت الانتباه مقارنة بأي من قدراتنا الإدراكية الأخرى (جين أوستن).
أهمية الذاكرة في كل شيء نفعله تقريبا فدونها لن نستطيع أن نتكلم أو نقرأ أو نتعرف على الأشياء أو نستدل على طريقنا في البيئة المحيطة بنا أو نحافظ على العلاقات الشخصية. ولتوضيح هذه النقطة سنعرض بعض الأفكار والملاحظات السردية عن الذاكرة إلى جانب ملاحظات مفكرين ذوي شأن في مجالات أخرى ذات صلة مثل الأدب والفلسفة.
1- أهمية الذاكرة
لماذا تختزن هذه الملكة العقلية المستقلة التي منحنا الله إياها أحداث الأمس بشكل أفضل من أحداث العام الماضي بل وأفضل من أحداث ساعة مضت؟
ولماذا خلال سنوات الكبر يبدو احتفاظها بأحداث الطفولة أقوى؟ لماذا يزيد تكرارنا لتجربة ما قدرتنا على استرجاعنا لها؟ لماذا تنعش الأدوية والإصابة بالحمى والاختناقات والانفعالات ذكريات نسيناها منذ مدة طويلة.
تبدو مثل هذه الغرائب عجيبة جدا وربما إذا نظرنا إليها بديهيا تكون عكس ما هي عليه بالضبط، من الواضح إذن أن هذه الملكة لا توجد مستقلة ولكنها تعمل في ظل ظروف معينة والبحث عن هذه الظروف هو أكثر مهام عالم النفس تشويقا.(ويليام جيمس)
2- الذاكرة في الحياة اليومية
الذاكرة ليست مجرد استدعاء معلومات صادفناها في فترة سابقة إلى أذهاننا فكلما أثرت تجربة حدث سابق على شخص ما في فترة لاحقة فإن أثر التجربة السابقة يعد انعكاسا لذكرى ذلك الحدث السابق يمكن توضيح تقلبات الذاكرة بالمثال التالي: لا شك أنك قد رأيت آلاف العملات طيلة حياتك ولكن دعنا نتأمل مدى قدرتك على تذكر عملة عادية ربما تكون في جيبك.
2- نماذج وآليات عمل الذاكرة
هناك عدة نماذج مختلفة لكيفية عمل الذاكرة ترجع إلى العصور الكلاسيكية ، فمثلًا شبه أفلاطون الذاكرة بلوح الشمع الذي تنطبع عليه الانطباعات أو تشفر ثم تخزن بعد ذلك كي نعود إلى هذه الانطباعات (أي الذكريات) ونسترجعها في وقت لاحق .
هذا التمييز الثلاثي بين التشفير والتخزين والاسترجاع لازم الباحثين العلميين حتى العصر الحديث وشبه فلاسفة آخرون في العصور الكلاسيكية الذكريات بطيور في قفص أو بكتب في مكتبة مشيرين إلى صعوبات استرجاع المعلومات بعد تخزينها أي اصطياد الطائر المراد أو العثور على الكتاب المطلوب.
3- فكر إيبنجهاوس
رغم أن النوادر والملاحظات الشخصية حول الذاكرة قد تكون تنويرية ومسلية فإنها غالبا ما تنبع من تجربة محددة لشخص معين لذا فمطروح للجدال إلى أي مدى هي :
واقعية بشكل موضوعي
وقابلة للتعميم بغير استثناء على جميع الأفراد
ويستطيع البحث العلمي المنهجي أن يقدم استبصارا فريدا عن هذه الموضوعات وقد أُجريت بعض الأبحاث المنهجية الكلاسيكية حول الذاكرة والنسيان في نهاية القرن التاسع عشر على يد هيرمان إيبنجهاوس فقد حفظ إيبنجهاوس 169 قائمة منفصلة لثلاثة عشر مقطعًا لفظيا عديم المعنى.
4- فكر بارتليت
يتمثل ثاني أعظم مناهج أبحاث الذاكرة في أعمال فريدريك بارتليت والتي أجراها في النصف الأول من القرن العشرين أي بعد إيبنجهاوس بعدة عقود وفي كتابه (التذكر) المنشور عام 1932 تحدى بارتليت فكر إيبنجهاوس الذي كان وقتذاك المهيمن على هذا المجال ذهب بارتليت إلى أن دراسة المقاطع عديمة المعنى لا تكشف لنا كثيرا عن طريقة عمل ذاكرة الإنسان في العالم الواقعي.
وقد طرح سؤالا مهما كم عدد الأشخاص الذين يقضون حياتهم في تذكر المقاطع عديمة المعنى؟ على النقيض من إيبنجهاوس الذي حاول حذف المعنى من مواده الاختبارية ركز بارتليت على العكس أي على المواد التي تحمل معنى (وتحديدا المواد التي نحاول أن نفرض عليها معنى ما).
5- بناء الذاكرة
كما رأينا في أعمال بارتليت ليست الذاكرة نسخة حقيقية من العالم على عكس أقراص الفيديو الرقمية أو التسجيل المرئي.
وربما يكون الأكثر فائدة هو التفكير في الذاكرة بصفتها تأثير العالم على الفرد وفي واقع الأمر يصف المنهج البنائي الذاكرة بأنها مزيج من مؤثرات العالم وأفكار المرء الخاصة وتوقعاته مثلا: ستكون تجربة كل شخص خلال مشاهدته فيلما مختلفة إلى حد ما لأن كل فرد مختلف عن الآخر ويعتمد على أحداث ماضية شخصية مختلفة وله قيم وأفكار وأهداف ومشاعر وتوقعات وحالات مزاجية وتجارب سابقة مختلفة وربما يكونون قد جلسوا بعضهم إلى جوار بعض في قاعة السينما ولكن من الجوانب المهمة أنهم وجهوا فعليا بفيلمين مختلفين وفقا لاختلاف مشاعرهم وأفكارهم.
6- کیف ندرس الذاكرة اليوم؟
يمكن دراسة الذاكرة بطرق عديدة وفي مواقف كثيرة؛ فمن الممكن معالجتها ودراستها في (العالم الواقعي) إلا أن معظم الأبحاث الموضوعية التي أجريت حتى اليوم عن مسألة الذاكرة اشتملت على أعمال تجريبية حيث تقارن فيها المعالجات المختلفة تحت ظروف محكمة (عادة في بيئة معملية) تنطوي على مجموعة من الكلمات أو غيرها من المواد المشابهة المطلوب تذكرها وقد تتضمن المعالجة أي متغير من المتوقع أن يؤثر على الذاكرة مثل طبيعة المادة المثيرات البصرية في مقابل المثيرات اللفظية وألفة المادة ودرجة التشابه بين ظروف الدراسة والاختبار ومستوى الحافز للتعلم.
8- الملاحظة والاستنتاج
أبحاث الذاكرة في العصر الحديث يتضح أثر الذاكرة من خلال الدرجة التي يؤثر بها حدث ما على السلوك اللاحق عليه.
9- الخلاصة
إن الذاكرة ضرورية لكل شيء نفعله تقريبا ودونها لن نستطيع أن نتكلم أو نقرأ أو نستدل على طريقنا في البيئة المحيطة بنا أو نتعرف على الأشياء أو نحافظ على العلاقات الشخصية ورغم أن النوادر والملاحظات الشخصية حول الذاكرة قد تكون تنويرية ومسلية فإنها غالبا ما تنبع من تجربة محددة لشخص معين لذا فمطروح للجدال إلى أي مدى يمكن تعميم هذه الملاحظات بغير استثناء أي على جميع الأفراد رأينا من خلال أعمال إيبنجهاوس وبارتليت كيف يستطيع البحث المنهجي تقديم رؤية جوهرية عن الخواص الوظيفية للذاكرة البشرية ومؤخرا صار بالإمكان تحليل الخواص الوظيفية الداعمة للذاكرة بشكل منهجي عن طريق التقنيات الإحصائية والرصدية التي تمكننا من تفسير حجم وأهمية الاكتشافات التي يتم التوصل إليها من خلال التجارب المحكمة بدقة.
اضافةتعليق
التعليقات