قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}( آل عمران: ١٤٥).
في هذه الآية نجد تقسيم ثنائي للناس وفق لمراداتهم، اي اهدافهم التي من اجلها يعيشون وبها حياتهم يمضون، والحافز الحقيقي هو ما ابتدأت به الاية بقوله تعالى:
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا}، ففكرة إن لحياة كل انسان في هذا العالم نهاية لكنها مجهولة الميعاد، من جهة هي حقيقة لا يمكن لأحد انكارها إذ يرى الكافر والمؤمن إن في كل يوم هناك من يرحل بغض النظر عن سني عمره.
ومن جهة أخرى خلاله يتشكل الهدف والمراد من وجودنا حتى مجيئ ذلك اليوم. فالذي لا يؤمن بوجود حياة اخرى، هو يكون عادةً من مريدي الدنيا، أي أن هدفه يكون ضيقا مرتبطا بما فيها فقط، ومن يؤمن بوجود حياة أخرى يكن مراده أوسع كما سيتبين.
شروط خمس لأي هدف يريد الإنسان تحقيقه
هناك (١) خمس شروط تكررت في هذه الآية لتحقيق أي هدف بغض النظر كونه دنيوي او اخروي هي(من- يريد- ثواب- يؤتى- منها):
فالشرط الأول: {وَمَن} أي أنت تريده لا الآخرون مثل التأثر وتقليد ما هو مرغوب في نظر المجتمع أو ما يوافق رغبات الاهل.
والشرط الثاني: {يُرِدْ} أي أن الارادة له تكن حقيقية، وهذا يُعرف من كيف تعيش يومك، ماذا تفعل به، هل سيوصلك لهذا الهدف أم لا؟ إذ نستطيع أن نعبر عن صدق الإرادة بهذه الجملة" قل لي بمَ تمضي وقتك أقول لك إلى أين انتَ ماضي".
والشرط الثالث: {ثَوَابَ} أي أن يكون هناك نفع يرتجى من هذا الهدف يعود عليه وعلى غيره.
والشرط الرابع: { نُؤْتِهِ} أي أن الذي يؤتي لهذا المراد هو الله تعالى سواء كان هذا المراد دنيوي او اخروي، وفي هذا الفعل الإلهي -كما يبدو- ثلاث معاني تراتبة:
الأول: لأن من سنن الله تعالى أن الإنسان إذا أخذ بالأسباب الطبيعة فإنه يصل لمراده، هذا معنى العام للإيتاء الإلهي، كقوله تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء:٢٠)، .
الثاني: إن الانسان يبقى مفتقرا الى هذا الاذن الالهي ببلوغ المرادات فلا يتكل أو يعتمد على قدرته أو سعيه فقط، بل يسعى ويتوكل.
الثالث: الاطمئنان بأن ما يؤتاه بعد السعي هو الافضل والاصلح له، فإن كانت نيته الآخرة يؤتى ما هو أصلح وابقى، وإن كانت نيته الدنيا يؤتى ما هو منها.
الشرط الخامس: {مِنْهَا} هذا التبعيض المنسوبة الى ما هو مراد سواء كان من الدنيا او الاخرة فيه-كما يذكر- وجهين:
الوجه الأول: {منها} اي من جنسها فإن كانت دنيا فيؤتى منها أي من متاع هذه الدنيا.
وإن كانت من الآخرة فيؤتى من الآخرة.
الوجه الثاني: منها أي من بعضها لا كلها كي لا يتوقف الانسان عن السعي، والخسران هنا في هذه البعضية عند الصنف الأول للمرادات الدنيوية بأن هذا البعض مهما كثر يبقى قليل لان كل ما في الدنيا متاع قليل! أما في الآخرة فمهما كان المؤتى قليل يبقى خير كثير، فهناك جنة وجنتين وجنان وهناك رضوان من الله اكبر، فهذا التبعيض المجهول قدره فيه تحفيز للإنسان على دوام السعي والاستمرارية في الطلب.
الشرط الفاصل بين مراد الصنفين
يتوسط هذه الشروط الخمسة المكررة في الصنفين شرط سادس وفقاً له حصل تصنيف الناس إلى هذين صنفين-كما اشرنا- والذي هو ما هذا المراد، هل هو دنيا فقط أم أخرة فقط، وهذا يأخذنا إلى فهم دقيق للفرق بين متى نقول[تحديد] ومتى نقول [تسديد] لذلك الهدف المراد بلوغه؟
لو ضربنا هنا مثال لشخص لديه صوت جميل، يضع أمامه هدفا أن يصبح مغنيا، فيسعى ويجتهد ثم يصل لهدفه فينال الشهرة والمال والوجاهة الاجتماعية. شخص أخر لديه نفس الجمالية في الصوت لكن فكر أن يصبح قارئ للقرآن الكريم فسعى واجتهد هو سيصل وينال الشهرة والمال والوجاهة الاجتماعية ايضاً، لكن الفرق بينهما هو أن الأول هدفه محدد بالدنيا فقط فنال من الدنيا، لذا هو نجح ببلوغ هدفه.
الثاني لا! هدفه كان أخروي فحصل على ثواب الدنيا وفي الاخرة له ثواب منها ايضاً، وهذا يسمى مفلح. ولهذا القرآن الكريم يركز على كلمة [الفلاح] ولا يذكر كلمة [النجاح] لأن الفلاح اشمل لمفهوم النجاح الحقيقي، ففيه تحصيل النفع الدنيوي لصاحبه ولغيره وبقاء الأثر وتحصيل الثواب الاخروي.
بتعبير آخر الاخرة هي الكل والدنيا هي الجزء-كما يعبرون- فمن يرد الكل يسهل عليه الحصول على الجزء، ومن يرد الجزء قد يحصل على شيء منه لا كله اصلاً، لذا هو خاسر في قبال ذلك المفلح، والمثال أوضح هذا المعنى فما حصل عليه من استخدم صوته بالغناء حصل عليه من استخدم صوته لخدمة كتاب الله وزيادة ممدودة إلى تلك الحياة الأبدية.
بالنتيجة التسديد يعني أن يقصد الإنسان الهدف الاسمى و الاصلح والافضل والأدوم ثواباً واثراً هذا من جهة، ومن جهة اخرى فيه اشارة الى المدد والمعونة الإلهية التي ينالها صاحب هذه الارادة، بمعنى أن صاحب الصوت الجميل -في مثالنا- لو أراد الآخرة لكان ممن نال الهداية ليكون هدفه مسدداً صوب أن يكون قارئاً لكتاب ربه، لا مغنياً عاصياً لله تعالى مفسداً لقلوب ونفوس غيره.
اذن الان اصبح لدينا الصنف الأول هو {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } الناجح في تحديد هدفه الدنيوي. والصنف الثاني هو {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} المفلح في تسديد هدفه الأخروي.
من هم الشاكرين الذين ختمت بهم هذه الآية
الآية ختمت بقولها { وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}، هنا يوجد مرتبتين لصنف الشاكرين:
المرتبة الأولى: هو من يعمل لله تعالى شكراً بما أنعم به عليه، ولا يعصيه بها، فهو يريد ما يريده منه الله تعالى تقرباً وطلباً لثوابه، بدليل هذه الآية{ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعی لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} (الإسراء:١٩)، وكما يعبر الإمام السجاد(عليها السلام) في مناجاة الشاكرين[ وَآتِنَا مِنْ حُظُوظِ الدَّارَيْنِ أَرْفَعَهَا وَأَجَلَّهَا عَاجِلاً وَآجِلاً،…].
المرتبة الأعلى: ذكر في التفاسير(٢) إن المراد هنا هو ذكر صنف مستقل عن الصنفين المتقدمين أي إنهم لا يريدون دنيا ولا أخرة بل يريدون شكر الله تعالى فيما أنعم عليهم فيكون هدفهم أن يكونوا من عباده الشاكرين، فالشكر الحقيقي هو استشعار مواهب المنعم واستثمارها بما يوافق مراده، لا طلب للمزيد من النعم أو ما يقابله وإن كانت هذه ممدوحة فهي جزء من عبوديتنا وإظهار احتياجنا لعطاء الله تعالى وإدامتها .
بالنتيجة هذه المرتبة من الشكر لا يقوى عليها إلا أهل العصمة، كما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) :[ ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك]، فهذه العبادة هي عبادة الشاكرين، وارقى درجات التسليم التي لا يرى العبد لنفسه شيء يريده في قبال عبوديته لهذا المعبود.
—————
اضافةتعليق
التعليقات