كما نعلم فإن رحلة سلمان من الرحلات المميزة في تأريخ الإسلام فقد كانَ من الموحّدين، وقد شدّ رحله إلى الشام طالباً الحقيقة وباحثاً عن الدين القويم، ومن الشام إلى الموصل، فنصيبين، فعمورية، ثمّ سمع بأنّ نبياً سيُبعث، فقصد بلاد العرب، فلقيهُ ركبٌ من بني كلب، وطلب منهم ليحملوه إلى أرض الحجاز، لكنهم نكثوا عهدهم فباعوه ليهودي ومن ثم اشتراه إبن عم اليهودي من بني قريظة حتى وصل إلى المدينة، ولما سمع بخبر الإسلام، قصد النبي (صلى الله عليه وآله)، وأظهر إسلامه بعد أن شاهد علامات النبوة.
هذا بإختصار ماحدث في رحلتهِ المباركة ولكن علينا أن نلتفت بشكلٍ دقيق أكثر إلى تفاصيل الرحلة وكيف وصل لهذهِ المرتبة العالية وهذا الشأن فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يناديهِ بإسمه بل يقولُ لهُ سلسل وهذهِ دلالة على قُربه الروحي من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يقول: سلمان منا أهل البيت. وأيضا قال: "إن الجنة لأشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة، وإن الجنة أعشق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة".
لذا لا بدَ لكلِ صاحبِ قضية من رحلةٍ يبحث فيها عن راحتِه وعن ذاته وعن طموحه، وتتباين الرحلات بين الأفراد، فهناك رحلةٌ زمانية فقط، وهناك رحلة زمانية ومكانية، وهناك رحلة رُوحية وعقلية، المهم أن يتحوَّل بعدها من حال إلى حال أفضل. والرحلة الروحية تجمع بين البحث عن الذات والعقل والدين والحُب بذات الوقت فتُعتَبر من أجمل وأعظم الرحلات وأشقها أيضا.
وعلى السالك في طريق البحث عن الحقيقة أن لايُعير أي إهتمام للأمور الظاهرية وان يركز على هدف الرحلة حتى وإن كان في مكانٍ راضٍ عنه من مال وجاه إن وجدَ في نفسهِ إفتقار المعرفة فعليهِ بالبحث للغنى الأبدي فالراحة المادية مهما تكون لن تصل ولو بمقدار بسيط من الراحة المعنوية الداخلية فقد نلاحظ وعلى الرغم من أن سلمان من طبقةٍ اجتماعية رفيعة ومرفَّهة، وكان رضي الله عنه الولدَ المدلل الذي لم يكن لينقصَهُ شيء، فإنه لم يَثْنِه كلُ ذلك من المباشرة برحلتهِ؛ لأنه اقتنع تمامَ الاقتناع أن ما فيه من راحة نسبية إنما هي راحةٌ مزيفة ظاهرية، فصار لا بد له من البحثِ عن الحقيقة، وعن كل ما يتعلَّق بها؛ لأنها الوسيلةُ الوحيدة التي ستُلبِّي حاجاتٍ بداخله لن يحدها إلا فيها، وتُجِيبه عن كلِّ التساؤلات التي تدور في خَلَدِه.
ولنا أن نتخيَل الجهد والمعاناة التي مرَّ بها الصحابي سلمان خلال رحلتهِ تلك، فأول الأشياء وأهمها فقدانه لحريته، وهو ليس بالإنسان الاعتيادي؛ فهو من عائلة ملكية العروق عند الفرس، تحوَّل خلال رحلته في البحث عن الحقيقة والراحة من إنسان حر إلى عبد مملوك فاقد الإرادة، خادم لا يملك من نفسهِ شيء، لقد ضحَّى سلمان بالجاه والمال والعز والرفاهية من أجل الراحة الروحية.
لذا فإن في رحلة بِناء الذات، وحين نضع أيدينا على ما نؤمن به أنهُ الحق، نباشره في الحال ولا نؤجل العمل فيه ونُسوِّف الأمور للمستقبل، وهذا ما فعلهُ سلمان حين وجد الكنيسة في طريقهِ أول مرةٍ بقي فيها إلى نهايةِ اليوم، واتَّخذ قرارات حاسمة في الموضوع. وأيضا هُنا يتضح لنا إن استشارة أهل الفضل والصلاح والفضيلة والعلم لمعرفة الطريق المؤدِّي للحق من الأساسيات للوصول وإلا فالنهاية هي الهاوية لا محال. إضافة إلى تقديم المال والممتلكات وكل غالٍ من أجل القضية والوصول إلى الهدف المرسوم.
والصبر وتحمُّل مشقة معاناة أسفاره التي ربما تطولُ وتتواصل، فرحلة الصحابي سلمان الفارسي كانت من بلاد فارس إلى بلاد الشام (فلسطين)، ثم الرجوع إلى الموصل (العراق)، ومنه إلى نَصِيبين (بلدة على جادة القوافل بين الموصل والشام)، وبعده إلى عمورية (بلدة في بلاد الروم في وقتها)، وبعدها إلى وادي القرى (وهو بين المدينة المنورة والشام)، وأخيرًا وصل مُبتغاه في المدينة المنورة، إنها رحلةٌ شاقة بلا شك، فقد قطَع خلالها آلاف الكيلو مترات من أجل الراحة التي يبحث عنها.
ولابد من إتخاذ القدوة الحسنة فهو مَن يرسم الطريق للفرد، ليكن الدليل على الحق بصدق وأمانة وإخلاص ولهذا لابد أن يكن الإنسان على حذر من إختيار القدوة، والرفيق أيضا فالأستاذ المربي يأتي من بعد التبصر وقد قيل لولا المربي لما عرفتُ ربي. وأما الرفيق فهو المعين وفي وجود الرفيق يَسهل الطريق.
أما التضحيات فلا بد أن يكون الإنسان في كبد على يقين أن الذي يخسر في رحلتهِ من أجل الله فإنه سيُغدِق عليه مِن الخير أكثر مما قَدم، فكلُّ ما يخسرهُ العبد سيعوضه الله عنه، فسلمان الفارسي بعد فقدان الأب وهجر الأهل عوَّضه الله بأفضل مما فقد وخيرٌ منه، وهو رسول الله (صلى الله عليهِ وآلهِ وسلم) وصحابتهِ وهم الرفقاء الصالحين بحق؛ حيث كانوا أهلًا لسلمان وكانوا يعتزون بهِ كثيرا ووقفوا معه فمن يبيعُ كل شيء لأجل الله يُعطيه الله فوق مايتمناه.
اضافةتعليق
التعليقات