كل قطرة دم تُراق فوق هذه المعمورة، وكل حرب وظُلم وخيانة وتجاوز، ليس سبب كل ذلك مُجرم واحد أو عصابة مُتّهمة، بل وجود مجموعة مُتفرّجين لم يستسيغوا بشاعة المنظر لكنهم اختاروا السكوت بدلاً من اتخاذ موقف تجاه مايحدث.
إنها الحيادية، أزمة الماضي والحاضر، سلاح يقتل بدون صوت، ويشارك في استمرار الانتهاكات بكافة أنواعها، ويشجّع الجناة على اقتراف الجرائم..
نعود لصفحات الماضي الأليمة وننقّب عن أمثلة حيّة لهذه الظاهرة، ليس من أجل إثارة الفتن أو لمجرد الادانة والهجاء _وإن كان البعض يصغُر عن الهجاء على قول المتنبي_، فنحن لا نريد معرفة ماذا حدث فقط، بل لماذا، وبعد أن نفهم الدوافع نستطيع تشكيل منظومة قيمية نتعكّز عليها مع كل منعطف نمر به.
مع قليل من التأمل وإعمال العقل نستطيع معرفة بعض المعالِم، لكن الله ل لطفه ورحمته رزقنا نعمة أخرى تساعدنا على ذلك، وهم الرسل والأئمة الهداة صلوات الله عليهم..
لقد شخّص أمير المؤمنين عليه السلام حالة أشخاص يتوّهم البعض بأنَّ مافعلوه صواب وحكيم وآمِن، لكنّ الامام يوضّح موقفهم المتخاذل في قوله:
"خَذَلُوا الْحَقَّ، وَلَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ".
وقد قال الامام ذلك عندما اعتزل بعض الأشخاص القتال في صفين.. ومع ذلك فإن مقولاته دوما تصلح لكل زمان ومكان.
فعندما نبحث عن جذور بعض المشاكل كبيرها وصغيرها نرى أنّ جزء كبير من حدوثها أو حتى استمرارها هو وجود مفهوم خاطئ في ذهن الكثير وهو الصمت أو الوقوف على التل فهو أسلم من وجهة نظرهم.
بطبيعة الحال لا أحد يحب التدخل في بعض الشؤون والقضايا سواء كانت خاصة أو عامة، وينطق المثل الشعبي هنا: "يا داخل بين البصلة وقشرتها ماينوبك غير ريحتها"، وبالفعل هذا أمر محبّذ في المسائل البسيطة أو القضايا الشخصية ومايتعلق ببعض خصوصيات الآخرين، لكن في مسائل مصيرية، ليس هناك مبرر للحيادية، فهناك عقول تفسد وبيوت تُهدم من جراء عدم ابداء موقف أو حتى رأي.
لقد عانى الامام عليه السلام كثيراً من تلك النماذج الخانعة الجبانة، فلقد كانوا سبباً في اضعاف جبهة الحق، مع أن (نور الشمس لا يحجب بغربال)، ولكن العدة والعدد تؤثر كثيرا في تقوية شوكة الاسلام.
وليس هذا الضعف من ضمن المنظور الديني فقط بل في أي منظور آخر يتأرجح بين ثلاث كفات، الباطل والحق والساكت بينهما..
حتى بات الحق والمعروف والصواب هشّاً ويدخل على استحياء في أي مسرح جريمة أو ظلم أو منكر، لأن أكثر المتواجدين متفرجين فقط، يشاهدون الأحداث، تارة يصفقون وتارة يبكون من بعيد.. خوفاً من العقاب أو طمعاً وتعلقاً بالدنيا.
فالسكوت ليس علامة الرضا دائما، بل علامة للخذلان والجبن والخوف والخيانة..
قد تصلح الحيادية إن سألنا أحدهم عن موقفه بالحرب بين الكوريتين، صراع بين مدير فاسد وموظف مرتشي، نزاع طفلين على لعبة.. أو بين قضيتين تقبع الفتنة في أحضانهما.. والامام صلوات الله عليه أشار إلى ذلك وشجّع على انخاذ موقف الحيادية، في قوله:
"كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، وَلاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ".
لكن هناك قضايا كثيرة مثل مثل الاساءة على الرسول محمد صلى الله عليه وآله والهجمة على المسلمين، التشجيع على المثلية والفساد، هضم حقوق بين أخوة أو أصدقاء.. ظُلم أو ارهاب.. هنا لا ينفع السكوت، ف"الساكت عن الحق شيطان أخرس".
على كل عاقل أن يتسلح بالمعرفة أولاً، ثم الطاعة والنصرة، بلا تردد وحيرة وخوف.
فلا مساومة ولا مداهنة، بل اتخاذ موقف مبدأي وإن كان: كلمة، "ما دين المرء سوى كلمة.. ماشرف الرجل سوى كلمة".
اضافةتعليق
التعليقات