في ضيافة الامام الجواد سلام الله عليه.. تتودد الكلمات لمفردة الإندهاش، وتتحات الذنوب من عمر الوشم وتتورد بلون قوس الطلوع إبان فجرها.
لأن للحرف كرامة، وعلى قدر عمقها تنتشي لنفسها سوابق من سامق المعنى، وإن للكلمة روح، ينبض القلب عشقا لروادها..
فكيف إن كانت من فم الدليل، ونص التأويل، وآية ليس لها بديل.
ياجواد الأئمة أدركني، جملة يرجى منها إدراك الرحمة بعض من اعتقد الإعجاز، وكمال الإيجاز، دعونا نرافق همس القضية وكيف ولدت، وتحدت زمن البلوغ بمقياس المعجزة، وتقلبت حتى اكتملت في ظل يد النبوة ورزقت اعتراف الإمامة، عند وفود الفكرة، ورحيل أباها زمن اليقظة .
في ركاب الأمة، كانت الإمامة أزيز يشابه صاعقة الحضور، كانت بصبغة الطاعة وإن صغر عمره ، تغذت الحقيقة، من صحن الضيافة، رافقها الشفاء ومهد لها أسرار القيادة، فسجدت وثيقة النماء واودعت ركيزة الحكمة أعتاب جواد الأئمة .
نصوص في إمامة الجواد عليه السلامة
روى الكليني بسنده عن معمر بن خلاّد قوله: ذكرنا عند أبي الحسن عليه السلام شيئاً بعد ما ولد له أبو جعفر عليه السلام، فقال: "ما حاجتكم إلى ذلك، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته في مكاني" .
وعنه بسنده، عن الخيراني، عن أبيه قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن عليه السلام بخراسان، فقال له قائل: يا سيدي إن كان كون فإلى من؟ قال: «إلى أبي جعفر ابني». فكأن القائل استصغر سنّ أبي جعفر عليه السلام، فقال أبو الحسن عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولاً نبيّاً، صاحب شريعة مبتداة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر عليه السلام".
ونقل ابن الصباغ المالكي في فصوله المهمة عن الشيخ المفيد قدس سره بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا عليه السلام: قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: «يهب الله لي غلاماً». فقد وهبه الله لك، وقرَّ عيوننا به، فلا أرانا الله يومك، فإن كان كون فإلى مَن؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه، فقلت له: جُعلت فداك، وهذا ابن ثلاث سنين؟ قال: "وما يضرُّ من ذلك! قد قام عيسى بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنين".
كما نقل القندوزي الحنفي في ينابيع المودة، عن فرائد السمطين للمحدث الجويني الخراساني الشافعي باسناده، عن دعبل الخزاعي، عن علي الرضا ابن موسى الكاظم عليهما السلام قال: "يا دعبل الاِمام من بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره".
ومن جملة الأحاديث والروايات المستفيضة، الدالة على أنّه كان معروفاً آنذاك أن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام هم أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنص عليهم واحداً بعد واحد .
رواه الكشي، في رجاله، باسناده عن أبي عبدالله الحسين بن موسى ابن جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام بالمدينة وعنده علي بن جعفر، وأعرابي من أهل المدينة جالس، فقال لي الأعرابي: من هذا الفتى؟ وأشار بيده إلى أبي جعفر عليه السلام. قلت: هذا وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: يا سبحان الله! رسول الله قد مات منذ مئتي سنة وكذا وكذا سنة، وهذا حدث، كيف يكون؟ !
قلت: هذا وصي علي بن موسى، وعلي وصيّ موسى بن جعفر، وموسى وصيّ جعفر بن محمد، وجعفر وصيّ محمد بن علي.. صلوات الله عليهم أجمعين.
وآتيناه الحكم صبيا
ليكن الطيف وسيط حلقة الغيث، وقد تسنم الإمام الجواد زمام الإمامة وهو ابن تسع سنوات،
وعلى مدى رسالة السماء وجمع الأنبياء، لم يكن غريبا أن يقبض وثيقة السلام، فلم تكن ظاهرة غير مقبولة علميا أو حتى عالميا، مع إنها الأولى من نوعها في الاسلام .
ففي قصة النبي عيسى بن مريم سلام الله عليه، آتاه الله الحكمة والنبوة وكان في المهد صبياً، وقبله كان يحيى، فقد آتاه الله الحكم والكتاب وهو صبي (وآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيّا).
مع أن هذه الظاهرة، وهي تولي زعامة الأمة في سن مبكرة أودت على نشوء عدة تساؤلات في صدور الموالين، في كيفية إدارة شؤون الرعية وهو حدث السن، القضية التي أدركها الإمام الرضا سلام الله عليه، فسعى لردع ذلك الشك بنصوص مختلفة وفي مواقف متعددة ومنها التي أشرنا إليها سابقا.
الامام الجواد وحكمة البيان
الاِمام الجواد عليه السلام، أدرك الشك والحيرة من بعض أصحاب أبيه في هذا الأمر؛ لأنّهم لم يألفوا ذلك من قبل فسعى لتبيان هذه الظاهرة، وإلفات وجهات النظر إلى الحقيقة التي غابت عن أذهانهم، فقد روى الكليني بالاِسناد عن علي بن اسباط، قال: (خرج عليه السلام عليَّ فنظرت إلى رأسه ورجليه؛ لاَصف قامته لاَصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك حتى قعد، فقال: "يا عليّ، إن الله احتجّ في الاِمام بمثل مااحتجّ في النبوّة، قال: (وآتينَاهُ الحُكمَ صَبيّاً)، قال: (ولمَّا بَلَغ أشُدَّهُ)، (وبَلَغَ أربعينَ سَنَةً) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة صبيّاً، ويجوز أن يُعطاها وهو ابن أربعين سنة".
وفي رواية أخرى.. وهو ما رواه الكليني بالاِسناد عن محمد بن اسماعيل بن بزيع، قال: سألته يعني أبا جعفر عليه السلامـ عن شيء من أمر الاِمام، فقلت: يكون الاِمام ابن أقل من سبع سنين؟ فقال: "نعم، وأقلّ من خمس سنين".
ولنا في كتاب الله شواهد ملكت الايجاب وأراحت ضمير الصدق مصاديق هي أقرب للتقوى، وهو ما نقرأه في رواية الكليني الأخرى عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال: قال علي بن حسان لأبي جعفر عليه السلام: يا سيدي، إنّ الناس ينكرون عليك حداثة سنّك، فقال: "وما ينكرون من ذلك، قول الله عزَّ وجلَّ؟ لقد قال الله عزَّ وجلَّ لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلي أدعُو إلى اللهِ على بَصيرَةٍ أنا وَمَن اتَّبعَني) فوالله ما تبعه إلاّ علي عليه السلام وله تسع سنين وأنا ابن تسع سنين ".
سنخية الإمامة والنبوة
ارتضى أهل البيت سلام الله عليهم، مفعول التعقل والتعليل في أسلوب التواصل وجمالية المشافهة قولا وعملا، ومما لاشك فيه أن عموم الروايات التي تركت للمسلمين آنذاك والشيعة على وجه الأخص انطباع الأهمية في التركيز على دور الإمامة ومقارنتها بالنبوة لأنهما من سنخية واحدة، وإن الامام حاول الفات نظر الحضور، إن فاصلة العمر لا يعد من مداخل الأهمية بين الإمامة والنبوة، وقد قيد الله سبحانه بنصه الجليل أن يكون الاختيار لأهل العصمة وكمال صفاته، دون النظر إلى سن المبعوث بالكرامة ونور النبوة، مع الأخذ بنظر الاعتبار كل الظروف المحيطة والوقت اللازم لتدارك الموقف.
وباختصار.. على كل من أولده المبدأ، أن يتعامل مع الإمامة كما النبوة، لأن الإمامة امتداد النبوة تجمعهما شيفرة واحدة، وقدسية لاتخيب الظن أبدا تجمعهما نص سماوي واحد وأن الإمامة كما ذكرها الكافي الشريف في كتابه، (ابعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو أن يقيموا اماما باختيارها).
فإن مسلك النبوة والإمامة واحد لا يتجزأ، لذا كما جاز بالنبوة أن يتولى وهو ابن ثلاث سنوات، جاز أيضا في الإمامة .
ثم إنّ صغر السن وامتلاك علوم جمة والجلوس للمناظرة والمحاججة مع كبار الفقهاء هي ظاهرة فريدة وغريبة في حياة الاسلام، فحظي الامام بالأهمية البالغة، والإمتياز المبكر وقد أقر به الامام الرضا بذلك في الأحاديث المشار إليها، وقد انثنت أعناق العلماء له إجلالا وهيبة لنيل ذلك التفويض .
في إيجاز الخلق في خلق الامام الجواد سلام الله عليه، وربان صفاته، وغور التعقل اللامحدود في شخصه المبارك.. فسلام عليه يوم ولد .
اضافةتعليق
التعليقات