كان جالسا على كرسيه المعتاد في إحدى الحدائق العامة, وحوله الأشجار شامخة لكنها مصفرة الأوراق, مرتديا معطفه الأسود وقبعته الأنيقة, وغزا الشيب رأسه ولحيته وما زاده إلا جمالا وهيبة, وارتسمت على وجهه كل تفاصيل الشيخوخة وأحداثها ووقرها وكأنها رواية عظيمة اكتملت كل فصولها. ولم يكسر الحزن مسحة الأمل في عينيه.
كان منهمكا بقراءة كتاب وجده في مكتبته وكان قد جذبه عنوانه فهو كتاب (الأجنحة المتكسرة) لجبران خليل جبران.
حتى استوقفته إحدى النصوص وطال انتظاره في هذا النص والذي كان:
(إن دمعة واحدة واحده تتلمع على وجنة شيخ متجعدة فهي أشد تأثيرا في النفس من كل ما ترهقه أجفان الفتيان.
إن دموع الشباب هي ما يفيض من جوانب القلوب المترعة, أما دموع الشيوخ هي من فضلات العمر تنسكب من الأحداق, هي بقية الحياة في الأجساد الواهنة.
الدموع في أجفان الشبيبة كقطرات الندى على أوراق الوردة, أما الدموع في وجنة
الشيخوخة فأشبه بأوراق الخريف المصفرة التي تنثرها الرياح وتذريها عندما يقترب شتاء الحياة).
هذا النص أيقظ فيه شعور الطفل الصغير الذي أربكه الزحام عندما أفلت يد أمه لأول مرة, آلم قلبه ولمس موطن الوجع فيه, فسبقته دموعه للتعبير عن الإحساس بذلك الوجع وتساقطت على الصفحة واختلطت مع حروفها وكأنها تريد أن تطفئ ذلك اللهيب الذي أوجدته تلك الكلمات.
نعم فذلك النص يصف حاله بالضبط , حياته وكل أحداثها وذلك الوجع الخفي, فنظر لأوراق الخريف التي تتناثر حوله وتلك الورقة التي تسقط بهدوء, فمد يده لتستقر فيها فابتسم محدثا إياها: كم أننا نشبه بعضنا يا حبيبتي!.
وتركها لتعلن نهايتها بصمت مع الأخريات..
كان وحيدا فمنذ استشهاد ولده وهو لا يجد سبيل ليومه الطويل المليء بالذكريات, سوى كرسيه هذا, محدقا في تلك الكتب التي لا يمل من شرائها وقراءتها بنهم, فهي الشيء المتبقي له من نشاط شبابه, فحبه للقراءة يذكره بذلك الصبي الذي لطالما قرأ وكتب واستمتع بموسيقى الحروف طوال حياته, فالقراءة حبه الأعظم حتى أنه أهدى هذا الشغف لولده الشهيد.. وتلك الذكرى كانت الأقرب لقلبه, وإن كانت ندية بالدموع دائما, فلعن الله الحروب أينما حلت هدمت وهدمت الكثير..
تعبت عيناه فرفع نظارتيه عن عينه فأصبح كل ما حوله غير واضح واختلطت ملامح المكان ببعضها.
فمرر بحركة عطوفة من تلك اليدين اللاتي باتت ترتجف حتى من حمل الكتاب على تلك العينين المرهقتين مواسيا إياها على ذلك المنظر أن لا عليك فتلك النظارة الجميلة ستعيد ترتيب الأشياء والألوان مرة أخرى.
وشرع يكتب مقاله الجديد والذي يحمل عنوان: (أرجوحة الرجاء)
(أن تفقد أحدا يعني أن تنطفئ إحدى الألوان في عينيك وإحدى الأنوار في قلبك,
فيمسي مكان ذلك اللون وذلك النور فارغا ينقصه الكثير.
لكن هنا وفي هذه الأحوال يأتي دور ما غذيت به نفسك وما ربيت عليه روحك, ما ألهمت به ذاتك وكيانك من أفكار, ما درست وتعلمت, ما همست به لنفسك حينما تسقط ضعيفا. فإما أن يمتلئ ذلك الفراغ أملا أو يمتلئ يأسا.
إما أن تستمر محاولا تلوين كل ما بهت أمامك لتعطي لروحك رونقا جديدا, أو يكبر ذلك الفراغ ويلتهم كل ما بقي من ربيع بداخلك.
وكأن لحظات الحياة هذه تضعك أمام مفترق طرق, وتضعك أمام نفسك تماما. وعليك الاختيار.
إما أن ترمم ذلك الفراغ الذي بداخلك معلقا روحك بأحلامها وأمانيها بأرجوحة الرجاء تاركها تتقاسم مع الطيور روعة أن يكون لها جناحين لتتسابق معها على من يحظى بحضن النسيم وقبلة السحاب أولا. أو أن يتهدم ذلك الكون العظيم بداخلك.
أن ترمم الفراغ وتعيد ترتيب الألوان الباهتة يعني أن تجرب الفرح في كل مرة, محاولا عيشه بكل التفاصيل وأبسطها, مثلا جرب أن تستشعر الفرح كطفلة صغيرة ترتدي فستانا جديدا لأول مرة.
أن تجرب الفرح, جرب أن تنظر بعيني من تعلق بأمنية عمرها سنوات ورآها ماثلة أمامه فجأة وبدون أي مقدمات. فهبات الله كثيرة وأجملها تلك التي لا نخطط لها.
أن تجرب الفرح كزهرة أقحوان صغيرة نجحت وبعد عناء أن تحرر جناحيها من بين صخرتين غلاظ كادتا أن تنسينها أنها زهرة وأن لشذاها جناح لابد أن يتحرر.
فبالأمل نحيا, هكذا هي حياتنا يولد أحد ويموت آخر, تدفن أمنية ليولد أمل, ينحني حلم لينهض طموح هذه هي الحياة..
فما بين الفرح والحزن وما بين الفقد واللقاء نتأرجح, فتارة تأخذنا كفة الاطمئنان فننام كطفل صغير أودع جسده في حضن أمه وترك كل شيء لأنه يعلم أنه لا يوجد ملاذ في الكون أكثر دفئا وأمنا مما هو فيه.
وتارة أخرى يأخذنا الحزن فيؤلمنا ويوجعنا بفقد أو خيبة أو ضياع فنمسي كحمامة أسيرة ضاق بها عشها فوق إحدى القبب وتشتهي سماء واسعة تحتضن جناحيها.
هكذا نحن فما نغذي به أرواحنا هو ترتيلة الاطمئنان التي تعود إلينا في أصعب أيامنا وأكثرها وجعا.
هكذا نحن مع الحياة هي معلمتنا ونحن أمله).
وانتهى من مقاله وبقي صامتا برهة, كانت كلماته عزاء لنفسه بولده الشاب, عزاء له بربيعه المقتول.
رفع نظره ومازالت أوراقه وقلمه بيده وإذا بالأفق تزين بلونه الأحمر, والشمس تتربع كملكة فيه, فهبت رياح خفيفة بعثرت ما في يديه من أوراق وسقط قلمه من يده جراء الجلبة التي سببتها تبعثر الأوراق. فنهض بجسده النحيل وبحركة منظمة جمع أوراقه وانتشل قلمه من الأرض, كان مبتسما وكأنه راضٍ عن كل أحداث السنوات التي عاشها وممتن لما غذى به روحه, فلم يجزع لفقد أو وجع, بل بقي متمسكا بالله..
لف تلك الأوراق ليضعها بداخل كتابه متأهبا للمغادرة، فوضع قلمه في جيب معطفه ليتحسس صورة ولده الشهيد التي كان تسكن في الجانب الأيسر دائما هناك حيث يقطن قلب أبيه لتحيا بنبضات قلبه..
غادر مكانه ومثل كل يوم, عندما بدأت أصوات المآذن والمساجد تختلط بالهواء وكأن بصوتها عبقا خاصا وحنينا لشيء ليس ببعيد، إنه صوت ضحكات ولده الشهيد.
فابتسم لسماعها فلطالما كان يحب أجواء المغرب هذه ومضى في طريقه تاركا أوراق الخريف تتطاير خلفه وكان بعضها قد أحزنها رحيله وبعضها الآخر وكأنها تقول له: نلتقيك غدا لحديث جديد..
اضافةتعليق
التعليقات