"كونوا أحرارا في دنياكم" (1) حروف من نور لمن ألقى السمع وسكب ضياء الحق بين جنبات قلبه، فهل يا ترى كان خطابا محددا لفئة معينة ومقيدا في زمان ومكان معينين أم أنه مستقى من أشعة العرش التي لا تعرف حدا ولا نهاية؟
في كل عام تتسارع الخطى يغذّي المحبون السير لقبلة واحدة في مراسيم العزاء المقدس، مؤتزرين الحب والدمعة، درب قصير المسافة وإن طال، مضمخ بعطر الولاء وأريج الشهادة، فهل كل سائر فيه حر؟
لاشك أن الناس مراتب في العقيدة والتقوى والامتثال لأولياء الأمر عليهم السلام، وهم في الحرية أيضا درجات، فمنهم من ارتقى أعلى سلالم التحرر من الشهوات والأنا والأطماع والنزوات وسيطرة السلطان وغيرها من الأغلال، فتراهم سارحين في جمال سلب ألبابهم وأشبع أرواحهم، وهناك من وضع قدمه على أول الدرجات وكلٌ على خير.
فنعما العبد عبد خرج من ذل عبوديته إلى عز طاعة الله سبحانه وتعالى، فتنقل في مراحل الخدمة الحسينية من بذل ومشي إلى إزالة العثرة عن طريق المؤمنين، ورمي النفايات في مكانها المحدد احتراما لصاحب المدينة المقدسة- وإن كانت كل البقاع لله سبحانه ولابد من المحافظة على رونقها- ولم يشغله طعام ولا شراب عن ذكر مصيبة الإمام الغريب، وكان ذو نفس مشغولة متعبة والناس منه في راحة فلم يزاحم الماشين ولم يثقل كاهل المضيفين، فإن هي إلا أيام معدودة تسطر في سجل الأعمال بريقا تنتشي منه الروح.
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان حرا وأكرمه بهذه الحرية التي تعد نعمة وفطرة ورحمة، وثمن الحرية باهض جدا وبه يشتري المرء نفسه فلا يبيعها لشهوة عابرة أو سلطان ظالم أو حفنة مال مغمس بالحرام أو لهيمنة الأنا المتضخمة والرياء الفادح وحب الشهرة الزائفة تحت مسميات عدة كالثقة بالنفس وتقدير الذات!.
وهذا ما أثبت ركائزه أمير المؤمنين عليه السلام حين قال: (لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً)(2)، فإن استطعنا أن ننال شرف المحاولة للخروج من هذه السجون فقد فزنا والله فوزا عظيما، وطوبى لمن خطفت تلابيبَ قلبه أنوارُ الحبيب، فإن فاته شيء من حطام الدنيا لم يفته التزود من عذب المحبة كأسا لا يظمأ بعدها أبدا.
...........
اضافةتعليق
التعليقات