لو.. إذا كنت تقول هذه الكلمة كثيراً، وإذا كنت دوماً تُراجع كلَّ ما فعلته بالأمس وتلوم نفسك على أخطاء الماضي، فقد يحمل الأمر عليك مخاطر في المستقبل فقد تكون أحد الذين سقطوا في دوامة الإفراط في التفكير (overthinking). Overthinking مصطلح قد تكون قرأته على الفيسبوك بصورة غامضة، فعندما يطرح الحديث عن الـ overthinking، تكون الصورة الأكثر تداولاً هي صورة الحزن والتفكير الكثير بسبب الأحزان العاطفية، لكن الحقيقة أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، وله كثير من التأثيرات السلبية، ولكنه قد يكون باباً كبيراً لتغيير في حياتك.
الإفراط في التفكير حالة، وليس مرضاً
يعرف قاموس Merriam-Webster الإفراط في التفكير بأنه حالة أو مشكلة يكون فيها الشخص يفكر أو يقلق كثيراً، وتتضمن التفكير أكثر من اللازم (في شيء ما)، أو ضياع الكثير من الوقت في التفكير، أو تحليل (شيء ما) بطريقة مضرة أكثر منها مفيدة. ويوصف الإفراط في التفكير عادة بأنه حالة أو مشكلة وليس مرضاً، ولكنه يزيد من فرص المرض العقلي، حتى إن البعض يطلق عليه المرض العقلي التالي أي أنه قد يكون مقدمة للمرض النفسي. ففي العام 2013، ذكرت دراسة نفسية أن تركيز الإنسان على عيوبه، وأخطائه، ومشكلاته يزيد من خطر المشكلات العقلية، فهو اجترار يجلب الفوضى على الصحة العقلية، ويجعل الإنسان محاصراً في أفكاره، ولا يعرف كيف يبتعد عنها.
زيادة المعارف قد تكون بداية هذه الحالة
العنصر الأبرز في حالة الإفراط في التفكير (overthinking) هو أنه من داخل الشخص وإليه، أي أن التدافع في المشاعر والأفكار يبدأ داخل العقل، وينتهي داخله كذلك، وقد يبدأ الأمر بزيادة المعرفة وتطور الفكر وزيادة الفضول لدى الشخص وكثرة التفكير في أمور مختلفة. ثم تأتي المرحلة التالية، وهي قضاء الكثير من الوقت في التفكير في التفاصيل، وطرح الأسئلة التي ربما ليس لها أي إجابة، مثل التفكير في الأمراض التي قد يصاب بها الشخص، أو يشك في أنه مصاب بها فعلاً، ثم يقضي كثيراً من الوقت في البحث عن الأعراض وأشكال الإصابة، والتفكير في الأزمات المحتملة في المستقبل، لكن المشكلة أن كل هذه العواصف الذهنية قد لا تُفضي إلى شيء في النهاية. وتعد الشبكات الاجتماعية حلقة في هذه الدائرة، فالتفاعلات على المنشورات بين الأشخاص تثير الأسئلة، وأحياناً ما يكون للامتناع عن الرد على رسائل المحادثات كبير الأثر في تفكير الأشخاص الذين يعانون من الإفراط في التفكير.
أحمق، هكذا تظن نفسك أحياناً، إذ إن واحدة من أبرز صور الإفراط في التفكير هي تذكر الماضي، ولوم النفس عليه، مثل تذكر حدوث أخطاء معينة في الماضي، وتدافع المشاعر في اتجاه يرى فيه الشخص نفسه أنه كان أحمق أمام الناس أو ما شابه، على الرغم من أن هذه يمكن أن تكون مجرد أوهام، ولا ترتبط بما حدث في الواقع. يتضمن الأمر أيضاً توقعات خيالية حِيال ما سيحدث في المستقبل، وقد تكون توقعات غاية في السوء، أو غاية في التفاؤل والوردية. وهو ما ينعكس سلباً في بعض الأحيان على الحالة النفسية، إذا لم تتحقق تلك التوقعات الإيجابية. العجز عن مواجهة الأخرين أيضاً واحدة من أكثر الصور شيوعاً وأكثرها تأثيراً، فلو دخلت في شجار أو مشادة كلامية مع أحدهم، وعجزت عن الرد أو التصرف في الموقف في وقته، فكل السيناريوهات المحتملة، وكل الأفكار التي كان يجب عليك فعلها، وكل الجمل التي كنت بحاجة لقولها، ستُهاجم عقلك بكل عنف وبلا هوادة. فأنت ببساطة تستعيد الموقف من جديد، وتحله بنفسك، وتنطق بكل ما كان يجب أن تقوله، لكن هذه المرة على طريقتك وبينك وبين نفسك، أنت تنتصر مثلما كنت ترغب، لكن بشكل خيالي.
يبدأ من الوحدة وضعف الثقة بالنفس
الوحدة واحدة من العوامل المسبِّبة بشدة لحدوث حالة الإفراط في التفكير، فالتواصل مع الآخرين والتحدث معهم ومشاركتهم الأفكار والمشاعر والمواقف قد يجنِّب العقل كلَّ تلك النزاعات التي تشتعل بداخله، لذلك فالانطوائيون أكثر مَن يعانون من الـ overthinking، بسبب عُزلتهم وقلة تواصلهم مع الآخرين. وأحياناً ما يكون ضعف الثقة في النفس، وقلة اليقين في سلامة نتائج القرارات التي يتخذها المرء سبباً مهماً في حدوث الحالة. الحساسية الزائدة لدى بعض الأشخاص كذلك قد تُدخلهم في دائرة التفكير المستمر، بعد التعرض لموقف يبدو ما حدث فيه وكأنه تعرَّض لإساءة، أو العكس، فالشخص الحساس قد يفكر كثيراً في احتمالية تسببه في إيذاء شخص ما. وقد يكون الإفراط في التفكير بالنسبة للبعض حائط حماية، فالتفكير المستمر في أمر ما قبل الإقدام عليه، خشية الوقوع في خطره شكل من أشكال الحماية النفسية، لكنها تعد في الوقت نفسه عائقاً في طريق النمو والتطور.
تكون الأحداث الغريبة أو غير المتوقعة في كثير من الأحيان سبباً في هذه المشكلة، بسبب عدم فهم الأمر واستيعابه، وعدم القدرة على تحديد حلٍّ ما للمواجهة، مثلما يكون التفكير في مشاعر الآخرين، وما يدور في أذهانهم، واحدة من الشواغل التي تملأ عقل وتفكير المفرطين في التفكير (overthinker)، لكن الواقع يقول إنه من الصعب الوصول إلى نتيجة منطقية جراء ذلك التفكير.
ويهاجم الشباب ومتوسطي العمر
"وباء وطني" بين البالغين من الشباب ومتوسطي العمر، هكذا وصفت دراسة نُشرت في موقع جامعة ميتشغان الأميركية عام 2003، مشكلةَ الإفراط في التفكير. لكن هذه الحالة نادرة نسبياً بين البالغين الأكبر سناً، حسب الدراسة، إذ إن 73% من الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و35 عاماً يعانون من هذه المشكلة، مقارنة مع 52% من الذين تتراوح أعمارهم بين 45 و55 عاماً، و20% فقط من الذين تتراوح أعمارهم بين 65 إلى 75 عاماً. كما أن النساء أكثر تعرضاً لمشكلة الإفراط في التفكير أكثر من الرجال، إذ تعاني 57% من النساء من هذه المشكلة مقابل 43% من الرجال.
وقد يصبح الإفراط في التفكير الطريقة الوحيدة للتفكير
قد يتحول الأمر في النهاية إلى عادة، ويتأقلم العقل على التفكير المستمر والمتكرر في كل الأمور، حتى يصبح الإفراطُ في التفكير جزءاً لا يتجزأ من طريقة التفكير والتعامل مع مختلف الأمور. وتُظهر إحدى الدراسات بعضَ مخاطر حالة الإفراط في التفكير، وهي الدخول في دائرة الضغط النفسي، التي قد تطول، وقد لا يكون لها حل، فماذا تنتظر من شخص يخشى من كلِّ ما فعله في الماضي، ويضع عشرات الاحتمالات لما قد يحدث في المستقبل. مثلما أشارت دراسة أجرتها جامعة سانتا باربرا الأميركية إلى أن التفكير أكثر من اللازم في موضوع ما أو مشكلة، من شأنه أن يعيق إنجازنا للمهمات والأعمال. فالإفراط في التفكير في الأمور ليس مجرد مصدر إزعاج. يمكن أن يُحدث ضرراً كبيراً على حياتك. تقول الأبحاث إن تركيزك على أخطائك يزيد من مخاطر مشكلاتك العقلية. وعندما تنخفض صحتك العقلية، فإن ميلك إلى اجتراح الذكريات يمكن أن يؤدي إلى حلقة مفرغة يصعب كسرها. وتُظهر بعض الدراسات أيضاً أن الإفراط في التفكير قد يؤدي إلى محنة عاطفية خطيرة. للهروب من هذه المحنة، يلجأ البعض إلى استراتيجيات التكيُّف غير الصحية، مثل الإفراط في الطعام. ولكن الأمر لا يقتصر على هذه المشكلات، فهذا النوع من السلوك يمكن أن يُسبِّب الإجهاد الزائد الذي يمكن أن يؤدي إلى مجموعة من المشكلات الصحية، مثل ارتفاع ضغط الدم، ومشكلات في الجهاز الهضمي، كما أنه يمكن أن يؤدي لأمراض نفسية، كما سبقت الإشارة إليه. وقد يتسبَّب الإفراط في التفكير في تعاطي المخدرات والكحول، بل قد يدفع بعضَ الأفراد إلى التفكير في الانتحار، أو حتى محاولة تنفيذ ذلك.
العلاج يبدأ بالهروب من الماضي
يبدو الحل سهلاً، ولكنه ليس كذلك. فالحلُّ هو أن تتوقف عن التفكير في الماضي بشكل مبالغ به، وأن تتوقف كذلك عن الإفراط في وضع احتمالات مستقبلية. يا لها من نصائح رائعة، لكن مَن قال إن الأمر بهذه السهولة!. بدايةً، يمكن القول إن المعرفة هي حجر الأساس للخروج من هذه الحالة، معرفتك أن القادم لن يتغيَّر بتوقعاتك ومخطَّطاتك، وأن الماضي قد انتهى برغم تفكيرك فيه، وفي كلتا الحالتين، فلن يكون من المجدي أن تظلَّ تُعيد في رأسك كلَّ تلك السيناريوهات. بعد المعرفة تأتي التجربة والتدرب، فكلما جاءت تلك الحالة لتعصف برأسك، ما رأيك أن تجرب أن تقول لنفسك إنه لن يشكل تفكيري فارقاً في تلك الأزمة، مرة تلو المرة، ستكتشف تلك الأمور التي تستحق أن تفكر بها فعلاً، وستتجاهل تلقائياً كلَّ ما هو غير مهم. ولكن الأدهى أنه يمكنك أن تحول هذه الحالة التي يحتمل أن تكون عتبة للفشل والاضطراب والمرض النفسيين إلى منصة ممكنة للنجاح.
ولكن هل يمكن أن تحول هذا العيب إلى بداية طريقك للعبقرية؟
بعد كل هذه التحذيرات، فإن الخبر الجيد أن الإفراط في التفكير ليس سيئاً على الدوام، ولكن بشروط. فإذا تم توظيف هذه الحالة بشكل صحيح ودون إسراف، من شأنها أن تكون ميزة لصاحبها، فالتفكير المتعمق والمستمر رغم سلبياته، يكون في الأغلب سبباً في ابتكار حلول غير مألوفة، وقد يساعد في تحليل الفكرة بصورة أكثر تعمقاً، ويساعد في اكتشاف التفاصيل الصغيرة الهامة، التي قد تخفى على آخرين. وتشير دراسة نشرتها مجلة Trends in Cognitive Sciences إلى أن منطقة الدماغ التي تضم الأفكار التي تخلق ذاتياً (أي الجزء المرتبط بالتفكير المفرط) قد تكون أكثر نشاطاً في الأفراد العصابيين، والذي قد يؤدي في النهاية إلى ابتكار حلول أو أفكار. كما تساعد حالة الإفراط في التفكير هذه صاحبًها على تفعيل الاستدعاء والتخزين في الذاكرة، وبالتالي استدعاء الذكريات المتشابهة، وربطها ببعضها البعض، والخروج بنتائج منطقية. وتشير أبحاث أخرى أيضاً إلى أن الأفراد ذوي التوتر العالي أو القلق قد يكون لديهم معدل ذكاء أعلى من أولئك الذين لديهم أعراض قلق أكثر اعتدالاً. ويمكن القول إن الإفراط في التفكير هي حالة فريدة من نوعها، فهي إن وُظِّفت بشكل صحيح قادت صاحبها إلى العبقرية والإبداع، وإن زادت عن حدِّها دخلت في دائرة الاضطراب. فإذا كنتَ من المفرطين في التفكير، فعليك أن تفكر كثيراً كعادتك، ولكن من أجل أن تحاصر هواجسك وتحل مشكلاتك بعقلانية، وتجعل موهبتك نعمةً لا نقمة. حسب عربي بوست.
اضافةتعليق
التعليقات