هناك في الصحراء الواسعة كانت بدايات هذا الفتى الفذ مع معلمه ربيب الوحي. حيث لايرتد البصر امام حدود او سدود.. كان علي "عليه السلام" يتلقى اول آيات المسؤولية وهي تنزل من السماء: (إنَّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان).
لم تطرق مهجة هذا الفتى المنفرد بشخصيته المسؤولة حكايات العجائ ، ولا احلام الصغار، ولا رعاة الأغنام لتحرفه عن هدفه الذي خُلق له.. بل صوت واحد من السماء يهمهم في أذنه: إنك خلقت للمسؤولية.. المسؤولية ولا شيئاً اخر..
هذه المسؤولية التي عجزت الجبال الرواسي عن حملها..
اجل.. لقد ادخرتك السماء ياأمير المؤمنين لتحمل بيدٍ راية الدين، وتحمل باليد الاخرى راية المظلومين والمعوزين والفقراء، لتقدم نموذجاً لم نره في أية دولة او حكومة حتى يومنا هذا
فقد جبل قلبه على حب الخير والعطاء المزان بروح العطف والشفقة على المستضعفين.
فعندما نتتبع مظاهر سلوكياته من أولها حتى محرابها، نرى المسؤولية واسمه توأمين لا يفترقان، فإن حث الله عز وجل الناس على البذل فقد كان أولهم وان حثهم على الجهاد فقد كان أسبقهم، وان حثهم على المسؤولية وتحملها فكان اولهم. حيث عندما بدأت ايام الرسالة أولى ساعاتها ولحظاتها كان هناك اثنان فقط من يلاحظون هذا التغيير العقدي والاجتماعي الذي يحدث في مكة وحولها.. هما امير المؤمنين"عليه السلام" ربيب الوحي وخديجة صلوات الله عليهما.
فقد اختار رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" الإمام علياً "عليه السلام" للمسؤولية الدينية والاجتماعية والأخلاقية والانسانية، ليس تحيزاً او تحزباً او لقرابة، بل لايمكن ان يرد من اختارته السماء له. فنعم العون ونعم الاختيار.
لذلك سنقف على شيئاً من هذه المسؤولية الملقاة على عاتقه ليكون في ذلك درساً للقادة والمسؤولين.
ماهو مفهوم الرعاية او المسؤولية الاجتماعية؟!
ان مفهوم المسؤولية الاجتماعية ببساطة: هو التزام المنظمات والمؤسسات في المجتمع الذي تعمل فيه تجاه مجتمعها وأفراده بتقديم مجموعة كبيرة من الأنشطة الاجتماعية والإنسانية والخيرية رغبة منها في المشاركة لرفع معاناتهم.. مثل محاربة الفقر، وتحسين الخدمات الصحية، ومكافحة التلوث، وخلق فرص عمل ،...الخ من الأنشطة التي تعكس مدى ارتباط هذه المنظمات مع من كان لهم الفضل في وجودها واستمرارها..
وقد تحدث العلماء المعاصرون عن هذا المفهوم الذي اعتبروه جديداً عن فوائد جمة اكتشفوها عندما تلتزم الدولة او المنظمات العاملة بها بمفهوم المسؤولية الاجتماعية حيث يتحقق عبر ذلك امتيازات منها:
-زيادة التكاتف الاجتماعي في المجتمع.
-تحسين نوعية الحياة الاجتماعية.
-زيادة الاستقرار السياسي نتيجة توفير فرص العمل.
-تقديم الخدمات للطبقات المحتاجة والمعوزة ورفع مستواها المعيشي.
وفي مقارنة بين حكومة امير المؤمنين"عليه السلام" والحكومات الاخرى على مستوى المسؤولية الاجتماعية..
قد وضع أمير المؤمنين "عليه السلام" عدداً من القواعد الاجتماعية الانسانية، بل قل ان شئت اللمسات الانسانية الحانية كقائد أبوي عطوف على رعيته، وقد ابدع في ذلك ايما ابداع.. فقد استوعب رعيته بحزنهم ومآسيهم ودموعهم والآمهم.. كيف وهو القائل : (واعلموا أنكم مسؤولون حتى بقاع الارض وبهائمها).
فكلما تعاظمت مسؤولياته تألقت فضائله ومزاياه، وكلما تألقت فضائله ومزاياه كانت اصدق دليل على عظمته الانسانية، وأوثق برهان على مكانته السامية.
وقد ابدع امير المؤمنين "عليه السلام" في القواعد اجتماعية الإنسانية قبل غيره بعقود طويلة..
-القاعدة الاولى: الدولة الكفيلة او الكافلة:
لقد أقر الامام علي "عليه السلام" إبان رئاسته المباركة قانوناً لم يكن له نظير ولا يشابهه مثيل فقد ابدع ذهنه الوقاد وروحه الانسانية وقيادته الفذة قانوناً مفاده: اذا قتل إنسان ولم يعرف قاتله، فان ديته على بيت مال المسلمين.
-القاعدة الثانية: الرعاية الاجتماعية الشاملة.
ان بداية خلافة امير المؤمنين "عليه السلام" كان إيذاناً بعهد جديد يختلف تماماً عن سابقيه،
عهد خصص للابداع الاجتماعي بكل جوانبه،
فلم تشغله مفاجئات الأعداء، ولا مكر المقربين، ولا خذلان أولى القربى عن تواصله مع رعيته، وانصافه لكل محتاج منهم.
فقد رفع شعاراً يصلح ان يكون راية تُرفع فوق ساريات الامم حيث قال: (لكل ذي رمق قوت)،
اي كل من سيتظلل تحت راية الاسلام من فقير، معوز، مسكين، او مريض، او معاق، او جريح، او عابر سبيل انقطع به الطريق، او من لم يجد قوت يومه فله نصيب من بيت مال المسلمين.
-القاعدة الثالثة: الحث على التكافل الاجتماعي.
أحياناً قد يعجز بيت مال المسلمين عن تغطية النفقات والتأمينات الاجتماعية لكل طبقات المجتمع لسبب او لآخر. لذلك على القائد ان يبحث عن البدائل الاقتصادية، وهذا لا تستعصي على رئيس فذ كالإمام علي "عليه السلام.
لذلك نراه قد اصدر تعليماته التالية في حقبة قلت فيها ايرادات الدولة لظروف ما، كإجراء احترازي لا اكثر فقد فرض على الأغنياء في كل بلد ان يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك اذا لم تكف الزكوات ولحقوق الشريعة وسائر أموال المسلمين، فيخصص لهم من أموال الأغنياء والمقتدرين ما يقتاتون به، اضافة الى تخصيص كسوة الشتاء وكسوة للصيف، بل مع تهيئة مسكّن يقيهم من المطر وحر الصيف، وعيون المارة.
-القاعدة الرابعة: عنايتة الخاصة بالأيتام.
وهم الحلقة الأضعف والثغرة الكبرى لقلب علي "عليه السلام" كيف لا وهو يسمع لقول رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" حين قال:
.(ان اليتيم اذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن)
فكيف لايهتز له كيان علي "ع" لذلك نراه في رمقه الأخير يقول: (الله الله في الأيتام فلا تبغوا افواههم ولا يضيعوا بحضرتكم).
بل بلغ من شدة اهتمامه بهم ان رَآه احدهم وهو يطعمهم العسل فقال: وودت ان أكون يتيماً.
تجنب الأخطاء الإدارية
من اهم الأمور التي يمكن اعتمادها في الكشف عن مدى مايتحلى به القائد من خبرة وتجربة والتي تميزهُ عن غيره، هو قدرته على إيجاد توليفة ادارية ناجحة لأي مؤسسة يمكن ان يتولاها. فدور القائد هو توجيه الطاقات سواء من موارد مادية او بشرية نحو الهدف المحدد.
ويلزم لذلك ان تكون لديه القدرة الإدارية والتنظيمية العالية.
وهنا يأتي دور القائد فمن الأمور الهامة الملقاة على عاتق القائد هو إيجاد الإجراءات الواضحة في التنظيم الاداري، وتجنب الأخطاء الإدارية القاتلة التي قد تؤدي بالمنظمة او المنشأ او بالدولة، في نهاية الامر الى الضعف والسقوط والانهيار.
وهنا سنركز على بعض الأخطاء الإدارية التي يقع بها الكثير من القادة، وقد تجاوزها امير المؤمنين "عليه السلام " بحنكته الإدارية المتقنة. وسنذكر عشرة اخطاء ادارية هامة شائعة، يقع فيها الكثير من اصحاب المؤسسات الربحية وغيرها..
أولاً: عدم وجود رؤية واضحة واستيراتيجية محددة.
وهذا اكبر الأخطاء الفادحة التي تقع فيها المنظمات، سواء الربحية او غير الربحية، فمن يفقد الاستراتيجية كمن يفقد بوصلة العمل في خضم امواج متلاطمة من الاقتراحات والمشاريع والأعمال واتخاذ القرارات.
ثانياً: عدم وجود الهيكلية في المستويات الإدارية.
يقول امير المؤمنين "عليه السلام" في وصيته الخالدة والرائعة لولديه الإمامين الحسنين"عليهما السلام" :(أوصيكم وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم امركم)، فكان عليه السلام من حذاقته الإدارية ان جعل هيكلاً تنظيمياً مرفقاً بوجود المستويات الإدارية الثلاثة في الادارة.. الحديثة وهي: الادارة العليا والوسطى والدنيا.
ثالثاً: عدم تحمل القائد الرأي الاخر.
يوجد هناك كثير من القادة نتيجة لخبراتهم التراكمية، وسعة اطلاعهم، وكثرة تجاربهم بالحياة، جعلتهم يمتلكون رصيداً وفيراً من المعلومات. تجعلهم مؤهلين لاتخاذ القرارات السليمة في الأوقات المناسبة، الا ان ذلك لايمنع من انهم يجب ان يستمعوا للآخرين.
رابعاً: عدم توزيع المسؤوليات.
أوصى الامام علي ابنه الامام الحسن"عليهما السلام" (واجعل لكل إنسان من خدمتك "مرؤوسيك" عملاً تاخذ به عملاً فانه احرى الا يتواكلوا في خدمتك ). فالقائد الذي ينغمس بصغائر الأمور وجزئياتها وفرعياتها سوف لن يتقدم مطلقاً الا ببطئ شديد، لانه يسوف لن يكون لديه الوقت الكافي الا لإنجاز الاعمال الروتينية وهي لاتنتهي.
لذلك لابد من إيجاد موظفين يوكل اليهم الكثير من الاعمال الروتينية اليومية بتدريبهم او إدخالهم في دورات ويتفرغ هو لدراسة احتياجات المنشأة وكيفية تطويرها الذي نسميه بالتفكير الاستراتيجي.
خامساً: عدم السماح للأفراد بتطوير أنفسهم ومهاراتهم.
هناك بعض من القادة وبسبب مايملكونه من الانانية والانغماس التام بالأنشطة اليومية، وهكذا كان أمير المؤمنين يحاول جاهداً ان يطور العاملين معه بإرسالهم للأمصار والمدن
وجعلهم في محل قيادة واتخاذ القرار مع المراقبة والمحاسبة. وذلك لابد من إعطاء فرصة للأفراد من مرؤوسين وموظفين لإثبات جدارتهم وكفائتهم من خلال صقل مواهبهم.
سادساً: التأثر بسلبية العاملين.
ان قابلية القائد ان يتأثر بالمؤثرات السلبية من ظروف او أفراد سلبيين هي واردة وبشكل يومي،
والسلبية هي افة شريرة كثيراً مانحرت تحتها مشاريع ناجحة. لذلك كان امير المؤمنين"عليه السلام" يمتلك من الإرادة والبصيرة مايجعله في حصانة كاملة من أولئك.
سابعاً: عدم اختيار الاكفاء.
كثير مانجد بان بعض المشاريع الناجحة كانت نهايتها مأساوية وذلك نتيجة اختيار مدير غير كفوء او رئيس غير نزيه.
ثامناً: القيادة المتسلطة.
في كثير من الأحيان يتخطى الحزم حدوده وتتجاوز الشدة ضروراتها، فيتمادى القائد في فرض جبروته وسلطته المستمدة من منصبه او صلاحياته في الضغط علىا المرؤوسين. وهذه الحالة خطرة ومرفوضة.
فالإمام علي "عليه السلام" يوصي دائماً بما يسمى بالقيادة الأبوية الحانية مع الشدة.
تاسعاً: عدم استعداد القائد لإجراء اي تعديلات.
في بعض الأحيان يتكون العمل من فريق يعمل بشكل مرتب ومتكامل، فقد يكون متجانساً لبعض الوقت.
اضافةتعليق
التعليقات