ماذا بين العبقرية والكاريزما؟ وماهو سبب تمايز هؤلاء المبدعون بأفكارهم وأشكالهم وسيرتهم الذاتية؟
إن الحديث عن شخصية المبدع الجذابة، وحضوره الأخاذ، حتى بعد رحيله، ونسج الأخبار والأساطير حوله، يؤكد حضور الهالة السحرية حول شريحة من الناس، احترفت مخالفة السائد، وتحطيم الثوابت، واجتراح المخارج، دون تكلف يذكر.
إذا توغلنا أكثر في عقل المبدع، نكتشف محرضات ذهنية ذات منطلقات خاصة، يربطها البعض بالماوراء، لكن علم النفس حاول إيجاد تعبير أكثر علمية فوصف لحظة ولادة الأفكار عند العبقري "بشرارة الإبداع" المبنية على الحدس.
الحدس
إن مفهوم "شرارة الإبداع" ليس بدعة، بل أثبتت الخبرة وجوده ورسوخه بثبات. وقد أكد كثير من الرجال العظماء وجود هذه اللمحات الوضاءة من البصيرة. وقد استنتج كثير من الكتاب ضمناً أن الانكباب العنيف على المشكلة من المستلزمات الرئيسية لتوليد "شرارة الابداع" في المستويات العليا من العمل الإبداعي. كما لو كان الجهد العنيف يولد في العقل ضغطاً أو جهداً (كهربياً) هائلاً ينطلق من عقاله عندما يتحرك الزناد بواسطة مثيرات تافهة من تلك التي يندر أن يستدعيها العقل، فتنقدح شرارة الإبداع التي تبدو كأنها تلقائية حتماً، أو أنها حدثت دون أي ارتباط بأفكار سابقة.
فكلما انطلقت شرارة الحدس من كمونها، بعد تهيئة الجو الذي تضطرم فيه نار الإلهام، انكشف ستار الغيب وتفتحت بصيرة العبقري المبدع.
ونطرح هنا السؤال التالي: إلى أي مدى يعتمد الإبداع على هذا الوميض أو تلك الشرارة إذا قورن بالارتقاء المنظم والتطور المنطقي؟
في الواقع، لا توجد أرقام لتجيب على هذا السؤال، ولكن الكيميائيين "بلات" و "بيكر" في دراسة لهما عن العلاقة بين الإلهام العلمي والبحث العلمي، قد استنتجا أن "شرارة الحدس" أو الإلهام حقيقة صحيحة دائماً. قال 7% فقط من مجموع الذين أجابوا على الاستفتاء (وعددهم 232 شخصاً) أن إلهامهم كان دائماً صحيحاً.
واختلف الباقون حيث تراوح الإلهام الصحيح بين 19%، 90%. وقرر 33% أن الحدس لم يساعدهم على الأطلاق.
التخيل الإبداعي
إن الدليل الذي قدمه بيرت وغيره على وجود عامل طائفي يميز التخيل الإبداعي عن التخيل الاسترجاعي، يشير إلى مدى تعقيد هذا العامل ذاته، وإمكان تحليله أكثر من ذلك إلى عدة عوامل فرعية بسيطة تدخل في تكوينه وهي:
1-الطلاقة:
وهي سيل غير عادي من الأفكار المترابطة. فيبدو العقل المبتكر كما لو كان يطلق دائماً طلقات من الأفكار الجديدة. كما أن الطلاقة ذاتها لها صور مختلفة: لفظية، وبصرية، وارتباطية، وفكرية.
2-الارتباط المشعب:
كثيراً ما يحدث خلط بين هذا العامل والطلاقة. فالطلاقة يمكن تعريفها غالباً في صيغة كمية بحتة، بالأعداد أو السرعة التي تصاحب ظهور الأفكار (أي عدد الأفكار المقترحة أو السرعة التي تتولد بها). بينما يعتمد "التشعب" على طبيعة أو نوعية الأفكار، ويقاس بتعدد أنواعها.
3-حساسية الاستقبال:
يميز هذا العامل لدرجة كبيرة القدرة الابتكارية للعبقري من الأصالة المزيفة للشخص الشاذ أو الحالم. فالعبقري لا يفكر في حلول جديدة فحسب بل إنه يدرك أيضاً مشاكل جديدة، فهو يرى المألوف في ضوء جديد.
سيكولوجية الملكات غير العلمية
ظلت فكرة الملكات أو قوى العقل البشري أمراً هاماً لعدة قرون، ليس فقط بالنسبة للرجل العادي الذي يرغب في تفسير سلوكه وسلوك غيره من الناس بل أيضاً بالنسبة للفيلسوف والسيكولوجي والتربوي. ومضمون نظرية الملكات العقلية "إن العقل مركب من ملكات مثل الانتباه، التفكير، الذاكرة، الخيال، والإرادة...الخ. وأن كل ملكة مستقلة عن الملكات الأخرى إلى حد بعيد، كما أن الملكة تكون قوية أو متوسطة أو ضعيفة في كل المواقف. فمثلاً ملكة الذاكرة، ملكة خاصة بتذكر الأسماء والألوان والمعلومات على اختلاف أنواعها سواء كانت شعراً أو نثراً أو معلومات من العلوم الطبيعية أو الرياضية... الخ. فمن يتمتع بذاكرة قوية، ساعدته على تذكر كل ما سبق، أما من كانت ذاكرته ضعيفة، فإنه يلاقي في حفظ وتذكر كل الحقائق درجة واحدة من الصعوبة".
إن ما حاول ويحاول علم النفس الحديث تأطيره، وإيجاد مبررات له، ورسم بعض معالمه، جهد العالم القديم في تأويله، فكانت مخارج عدة، أكثرها ربط العبقرية وكاريزما العبقري بالماوراء مثلاً لم يكن لدى الإغريق كلمة تشير إلى العبقرية، أو حتى إلى القدرة الإبداعية. ومع ذلك فمن الواضح أنهم أدركوا منذ البدايات المبكرة، وقبل نشوء علم الجمال بزمن طويل، بأن هناك شيئاً غير قابل للتفسير في العمل الخلاق. وفي محاولاتهم سبر أغوار هذا السر الغامض، صاغوا أفكاراً كانت مهمة وأساسية في التاريخ اللاحق لعلم الجمال.
اضافةتعليق
التعليقات