في الصباح الباكر من كل يوم يستيقظ "عماد" قصراً للذهاب الى عمله في محلٍ لبيع الأقمشة، منزعجاً جراء اصوات الصراخ المتكرر والعِراك المستمر والضجيج العالي للمكنسة الكهربائية التي لا تكاد تنطفئ لأكثر من ربع ساعة ثم يُعاد تشغيلها مرة أخرى!.
ينزل السلم وهو شبه صاحٍ عَلهُ يحظى بحمام ساخن يُشعره بالاسترخاء قليلاً، وفي كل مرة يرتطم في طريقه بقطع الالعاب المتناثرة هنا وهناك ليقفز على ساقٍ واحدة متألماً متضجورا..
وفي العشر دقائقٍ الاولى من الاستحمام تتلاشى سخونة الماء ويأتيه صاقعاً ليجعلهُ يتراقص من شدة البرد، فيخرج مسرعاً بنشاطٍ عالٍ!.
تغزو انفه رائحة الشاي والحليب والبيض المقلي والخبز المحمص على المدفئة النفطية، يبتسم لمَعِدَتِه وهو يفرك يداه واحدةً بأخرى متناسياً ما حدث له من أذية قبل دقائق قليلة!.
يتجه صوب غرفة المعيشة ليرى والديه وهما يقهقهان على عَرض اولئك (السعادين) الصغار اطفال اخيه الاكبر طبيب العيون "محمد" وهم يقفزون حولهم ويشاغبون بشتى الطرق والاشكال ..!
وفور محاولته بالجلوس لتناول الفطور تأتي اخته الصغرى "ليلى" طالبة الهندسة (المدللة المتفوقة عليه في كل شيء..) وهي تدندن كعادتها لتدفعه وتأخذ مكانه قائلةً وهي تُكَشر عن اسنانها ضاحكةً بسخرية وحُب: صباح الخير لأخي الوسيم.. ليُعلق على كلامها "محمد" ساخراً هو الآخر بكلمات تعسفية تثير إستيائه وان كانت لأجل الملاطفة لا اكثر ..
هكذا ورغم وجود مالذ وطاب من الطعام الذي تُقدمه زوجة الأخ اللطيفة مع زهرية مملوءة بالورد الذي تقطفه كل صباح من حديقة المنزل، إلا انه مع ضوضاء الاطفال ومشاكسة الأخوة لن يستطيع تناول الفطور بإستقرار يُذكر! وهذا هو ما عليه الحال اثناء وجبة الغداء والعشاء.. وليس ذلك فقط بل وحتى عند عودته في المساء تستقبله ابنة اخيه الأميرة الصغيرة "سارة" وهي تنط وتصرخ بأعلى صوتها: جاء عمي دودو.. جاء عمي دودو..! هيا احملني لنذهب الى "السوبر ماركت" واشتري لي بعض الحلوى، فيقول لها: أرجوك حبيبتي انا مُتعب جداً فترد عليه: عاااا اريد الآن.. اريد الآن..
وذات يوم خرج عماد الى عمله مبكراً كالعادة وفي الطريق صادف صديق قديم عزيز على قلبه لم يره منذ مدة، وبعد ان تبادلا السلام والتحية والسؤال عن الحال قَص عماد لصديقه المُقرب ما يحدث له كل يوم متذمراً من وضعه في المنزل وقال حينها: اتمنى ان اتخلص يوماً من كل هذا الهراء واحظى بالهدوء والراحة..
فارتأى الصديق دعوة عماد الى منزله ليبيت عنده هذه الليلة ويستمتعا سوياً، سُرَ عماد بذلك ولبى الدعوة..
وفي الصباح استيقظ متأخراً عند الساعة التاسعة، لا اصوات ولا ضوضاء!.
نظر حوله فرأى صديقه جالساً يقرأ الصحف ويحتسي كوباً من القهوة وأمامه صحن صغير يحوي قطعة جبن وحبات زيتون وقطعة خبز، تثاءب وأخذ يضحك، فأنتبه اليه صديقه وقال له:
-صباح الخير
فأجاب عماد:
- صباح النور، ليت كل الصباحات متشابهة كهذا الصباح الهادئ..
رد عليه صديقه قائلا:
-لا اظن بأنها أمنية جيدة!
فقال عماد:
-عجباً ولما؟!
أجابه :
-لأنك ستمل ذلك!
حينها ضحك عماد كثيراً وشكر صديقه على الدعوة ..
عاد الى المنزل فأستقبلته سارة الصغيرة بفرح وهي تقبله وتقول: اشتقت إليك ياعمي حبيبي..
حملها ودلفا الى الداخل فوجد أُمه وزوجة اخيه يرتبان لأجل شيء ما، وابوه واخيه جالسان ويتناقشان بصوت منخفض وكأن لديهما موضوع مهم ..
القى التحية فردها الجميع مبتسمين هادئين على غير العادة! اصابه الفضول وسألهم ما الأمر؟ فأجابوه بأن اليوم سيأتون بيت العم لخطبة ليلى.. وبالفعل تمت الخطبة والموافقة وتزوجت ليلى في وقت قصير ..
وبعد مرور عدة أيام جَلس "محمد" مع العائلة في المساء ليخبرهم بقرار استقلاله وانتقاله من بيت الأب الى بيته الجديد..
وسرعان ما بدأت أمنية عماد بالتحقق..!
فرِغ المنزل من دندنات ليلى العذبة وكأن جميع الالحان الجميلة اختفت من الوجود! وغابت اصوات "السعادين" الصغار واصبح عماد يتذكرهم على شكل ملائكة قد رفرفوا بأجنحتهم وطاروا بعيداً! وبات يشتاق لسُخرية اخيه وكلماته العفوية الجميلة!.
لم يعد الصباح مثلما كان، الاستيقاظ اصبح بارداً والمياه الساخنة متوفرة لكنها لا تُعطي النشاط بل تبعث على الخمول والكسل! وذاك الطعام اللذيذ هو نفسه ولكنه يفتقر لشيء ما..! وصار يذهب متأخراً ولايستطيع انجاز عمله بشكل جيد مما قلل عدد الزبائن الذين يترددون عليه..
والموجع حقاً إن تلك الإبتسامة على شفاه الوالدين بدأت تتلاشى يوما بعد يوم، وقد غادرتهما الضحكات الصاخبة والفرحة المنتشية مع مغادرة ليلى والصغار ..
واصبحت الحديقة اشبه برسمة عتيقة!
الورد باقٍ في مكانه الى ان يذبُل، والأرجوحة راكدة طوال اليوم ولا آثار لقطع الألعاب الملونة وتعرجات الطرق والبيوت الصغيرة من أكوام الطين ..
وبعد عدة شهور مرض الأب مرضا شديدا ورحل على أثره الى جوار ربه، وبقي الحزن يخيم في قلب عماد وأُمه المسكينة، وعلى زوايا البيت الكبير الذي سُلبت منه الروح وبات ساكناً موحشاً يعمه الهدوء القاتل ..!
لم يكن يعرف عماد نعمة السعادة التي كانت تتملكه إلا حين فقدها! وبات يتمنى ويرجو زيارة ليلى وعائلة اخيه كل يوم ..
الكثير منا الآن يمكن ان يكون كحال عماد في بداية الحكاية وقد يتمنى ان تتغير الأحوال لينعُم بحياة جديدة يتوهم بأنها ستكون افضل وأجمل، ولكن في الحقيقة سرعان ما سيندم على تلك الأمنية..! صحيح اننا جميعاً وفي اغلب الأوقات نحتاج للهدوء والراحة ولكن ليس طويلاً، فأن تكون الحياة بلا ضوضاء وعلى نمط واحد ثق بأنها ستميتك مللاً.!
إن للتَغيرات والإختلاف في حياتنا فضل كبير يتجسد في قتل الروتين المعتاد وإدامة النشاط والحيوية المطلوبة لإستمرار الحياة، فوجود الضوضاء وكثرة الأحبة ومضايقاتهم بقصد او بغيره ما هي إلا نعمة ضرورية من نعم الله تعالى، نحن بأمس الحاجة اليها وقد لا نشعر بها إلا حين زوالها، فحتى الضرر الذي يصيبنا بسبب تدخلات القريبين منا ماهو إلا منفعة تدر علينا بالفهم والمعرفة وتفتح اعيننا وفكرنا على امور لم يسبق لنا التعرف عليها..
أن تستقيظ كُل صباح على وتيرة واحدة تسمع وتنطق بضع كلمات تتكرر نفسها كل يوم، وتذهب وتعود وليس هناك من ينتظرك ويفرح بعودتك، او تجلس دائماً لوحدك في وقت فراغك تنظر الى الجدران التي بات حالك يشبه حالها! وليس هناك ما تسمعه سوى صوت المنبه ورنة جهازك النقال ان تذكرك احد لأمر ما او طرق بابك لحاجة ما..! فإعلم بأنك على قيد التنفس في شبه حياة راكدة تزج فيك نحو الكآبة والإنعزال، فلا حياة بلا ضوضاء..!
اضافةتعليق
التعليقات