لطالما عصف الذهن تدبّراً، وتألم القلب حسرة، وأنّت النفس حزناً على ما آل إليه حال أمتنا وواقعنا العربي في شتى مجالات حياتهم، مما دعا كتّاب الشرق والغرب للسخرية والاستهزاء بحالنا، وذلك ما عبّر عنه الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في كتاباته.
حين استهزأ منا ساخراً بأن العرب يعيشون على ما يستخرجونه من تحت الأرض، بينما يعيش الغرب على ما تنتجه عقولهم، وأن ما في الآبار إلى فناء، وما في الرؤوس إلى نماء، واستطرد ساخراً أنهم في أمريكا لم يعودوا منشغلين بصناعة رقائق "الشيبس" التي يصنعها العرب، ليتفرغوا لصناعة رقائق الكمبيوتر فائقة التكنولوجيا. ثم أشار معبراً وموضحاً حال الإنسانية الآن بأنه لو تم تجسيد البشرية في مدينة ما، لكان موقع العرب فيها إحدى الحواري الضيقة الكثيبة العفنة المظلمة، تنبعث منها الروائح الكريهة ويتصاعد منها الدخان الكثيف الملوث للبيئة، وقد كُتب على باب هذه الحارة الكثيبة: "ممنوع الدخول، واحذر الكلاب".
بيد أنه لم يعد لدينا وقت لتقمّص دور المقهور المظلوم الساكن الراكد المستسلم الراضي بحاله، كما لا يفيد البكاء على اللبن المسكوب. الأجدى والأهم من ذلك هو الجرأة على قراءة الذات والواقع العربي، والإفصاح عنهما بشفافية ووضوح، والبحث في أسباب التراجع ومواجهتها وتجاوزها، للخروج من المأزق الراهن الذي نعيشه.
بمعنى آخر: أعني التحول من حالة السلبية إلى حالة الإيجابية والفعل، وأول الفعل الصحيح هو المعرفة والإدراك والفهم الصحيح، الذي يتبعه الفعل الصحيح. وأول أدوات الإدراك والفهم الصحيح هو رفع الواقع بدقة ودراسة التحديات التي تواجه خطوات التنمية البشرية التي نخطوها، إذ إن الإصلاح والنهضة يبدآن من الإنسان ذاته.
ومن خلال معايشاتي المختلفة ودراساتي المستمرة، جمعت هذه (التحديات الإحدى عشرة) التي أعدّها تحديات استراتيجية، تحمل بين طياتها الكثير من التحديات والمشاكل الفرعية والجزئية. وألفت الانتباه هنا إلى أنني أتحدث عن الكليات والأصول والتحديات الكبرى، لا الفرعيات والجزئيات والمشاكل الصغرى. كما أودّ أن ألفت الانتباه إلى أنني أتحدث عن عالمنا العربي الكبير من المحيط إلى الخليج، مع استثناء العديد من المجتمعات والنظم التي بادرت بالاتجاه نحو الإصلاح وخطت العديد من الخطوات المثمرة، بيد أنها قليلة من كثير. وهكذا يحدث الانهيار، وبمثل هذا تخلّفنا:
- توارث وتجميل وتبرير الأخطاء والانحرافات والإخفاقات المتكررة في ضعف استغلال الوقت وإهداره دون اكتراث، والاحتراف في تقنين ذلك وتوريثه للأجيال التالية، حتى أصبحت ثقافة إهدار الوقت هي الأصل بدلاً من ثقافة إدارة واستثمار الوقت.ويتم ذلك بفعل أسباب كثيرة، أهمها: التخلف عن تعاليم السماء، والانغلاق على الذات، وعدم الانفتاح والتواصل مع ثقافات الشعوب الحديثة، وأيضاً بفعل إلف التكرار ورتابة العادة، وحالة التشتت والفساد التي يعيشها المجتمع، ودورها في تفريخ محترفين في التدليس وتغييب المجتمع عن الواقع الحقيقي؛ حيث يتم تحويل الخطأ إلى صواب، والانحراف إلى استقامة وحكمة، والهزيمة إلى انتصار، بل يُقنّن ذلك غالباً ليصبح ثقافة مجتمع وشعب وأمة.
- سيادة وانتشار ثقافة الفردية والأنا وتقديس الذات، وعدم التفويض والاستئثار بالأعمال والإنجازات (بفعل حالة الاستبداد والجمود السياسي التي فُرضت على عالمنا العربي لعقود متتالية)، وتقديم الحسابات والمصلحة الخاصة على المصلحة العامة.كل ذلك بدّد وألغى روح الجماعية والتعاون والعمل بروح الفريق، ومنح مساحات تفويض للآخرين، تمنح القائم بالتفويض فرصة استثمار هذا الوقت في أعمال أكثر أهمية، كما تمنح الفرد المُفَوَّض فرصة التدريب واستغلال إمكانياته وإنجاز أشياء جديدة لم يكن يقوم بها من قبل.
- تغليب العاطفة على العقل والموضوعية، والتحايل على القيمة والمبدأ والنظرية، وكذلك الفضول والاسترسال والإسهاب في كل شيء، بداية من الفكر والاهتمام إلى الحديث، إلى المأكل والمشرب، إلى المشاهدة والاستماع.
- الفوضى والعشوائية وغياب التخطيط والتنظيم وترتيب الأولويات.
- الإفراط الشديد في العلاقات الاجتماعية غير الموجهة، فاقدة الفاعلية، وكذلك الواجبات الاجتماعية المفرطة على حساب جوانب أخرى أكثر أهمية.
- السلبية واللامبالاة، والميل إلى الهروب والالتفاف والمواربة والموازنة والتلون والنسيان، وعدم المواجهة والمغالبة، وتوجيه الاهتمام والجهود نحو البحث عن المبررات ومحاولات تقنين الخطأ والإخفاق.
- سيادة وغلبة ثقافة اللعب واللهو على ثقافة الجد والاجتهاد والإنجاز.
- الإحساس بالانهزام والدونية، وانخفاض مستوى الطموح، والرضا بالأمر الواقع، ومن ثم غياب الأهداف الكبرى.
- الفساد الأخلاقي والإداري، وقتل المبدعين والمبتكرين وقهرهم، وإجبارهم على الهروب للخارج، والاستسلام للأمر الواقع.
- البيروقراطية المتخلفة، بفعل الانغلاق والتخلف الإداري والتنظيمي، أو بفعل الأمراض النفسية الشائعة، والتي تؤدي إلى تعقيد وبطء الإجراءات والإنجازات.
- سوء استخدام تكنولوجيا العصر الحديثة (الإنترنت - المحمول - الفضائيات).
- سوء فهم مقاصد وأحكام التعاليم والقيم الدينية، والفوضى والعشوائية في فهم وتطبيق وتقديم النفل أو الواجب أو المستحب على الفرض، أو تعظيم وتضخيم المكروه أو المشتبه به على المحرّم والكبيرة، والانشغال بالسفاسف عن العظائم، وربما تقديم الفرع على الأصل، والجزء على الكل... وهكذا.
بطبيعة الحال، نحتاج إلى الكثير من المراجعة الذاتية، التي لا بد وأن تتبعها الملاحظات والتوصيات العملية المكتوبة، ليبدأ التنفيذ والمتابعة والتقويم بعدها مباشرة. وأبشّر كل صاحب نية وعزم صادق.
اضافةتعليق
التعليقات