كان دور الإمام الحسين (عليه السلام) استمراراً لدور الأنبياء (عليهم السلام) ورسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) وتكميلاً لهم في تحرير الإنسان وفتح طريقه في الحياة، ليتحمل مسؤوليته.
فنهضة الامام الحسين (عليه السلام) كانت تهدف إلى تحرير الإنسان من مكبّلات الأغلال، الجهل والخوف والتضليل والاستعباد الذاتي عبر تحريك العقل وتعويده على التفكير بحرية واستقلال والخروج من دائرة الإنغلاق اللاشعوري الذي يكبله بقيود الرعب والخوف والقلق.
وأوضح ذلك الإمام الحسين (عليه السلام) بكلمته في خطاب عاشوراء: "إِنْ لم يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ وَكُنتُمْ لَا تَخَافُونَ الْمَعَادَ فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُم" ، فالإنسان قيمته توزن بالكرامة، والكرامة نعمة الله سبحانه كرمه بها من خلال العقل، وحرية الاختيار، والإرادة الحرة والحرية والكرامة متلازمتان فلا يمكن تصور الانسان بلا حرية.
في البحث عن الحرية الذاتية للإنسان، فإنها تتحقق بأن يتنعم بالحرية ويمارسها، ولكن هناك من يضع حواجز أمام حرية الإنسان، ويسجنه في سجن كبير من العبودية التي يريد من خلالها الهيمنة على الإنسان واستعباده.
هذه القيود ليست قيود الحاكم الظالم فقط، بل هي قيود الإنسان نفسه، كالقيود النفسية كما تتطرق إليها الآية الكريمة: «إِصْرَهُمْ وَالأغْلال»، (الآصار) هي الآثام والذنوب وإن (الأغلال) هي الأهواء والشهوات، وهذه الأمور تؤدي إلى عبودية الإنسان لغير الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يصبح عبداً لغير الله سبحانه عندما يكون عبداً لشهواته ولغرائزه وأهوائه وحبه للدنيا والمال.
أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يقول للناس، إذا كنتم لا تؤمنون بالمعاد ولا ترون أن هناك حساباً وعقاباً في الآخرة، فعلى الأقل كونوا أحراراً وأصحاب كرامة، ولا تكونوا عبيداً للدنيا والمال، لأنّ هذه الأمور من أرذل الأشياء، ومن المعيب حقاً أن يكون الإنسان عبداً لشهواته وللمال والدنيا وعبداً للحاكم. لأن قيمتكم الحقيقية تكمن في أن تكونوا أحراراً .
وهذه من أعظم الخطابات التي يجب أن نفهمها بعمق، حتى ندرك كيف يعيش كل واحد منا في حياته من غير أن يكون عبداً لكل هذه القيود المادية وتلك التي يغرق فيها بمستنقع الشهوات والذنوب والمعاصي.
إن مفهوم الحياة والموت مهم جداً في تحديد مسيرة الانسان ومصيره، وكيف ينظر إليهما بعض الناس، فهناك من ينظر للحياة ويعيشها لكي يأكل ويشرب، وهذه نظرة سطحية عبثية، لأن الحياة أكبر من أن نعيشها من أجل الأكل والشرب واللذة والمنفعة، لكن القيمة الأعظم والغاية الكبرى هو وجوده المعنوي، لذلك لا قيمة للإنسان الذي يكون عبداً للمعاصي والشهوات والدنيا المادية.
هناك من ينظر للحياة بشكل مادي فقط، وهذا للأسف الشديد من الأمور التي نلاحظها في الحياة المادية التي يعيشها معظم البشر، فهناك تضخم كبير في عالم الماديات والإستهلاك والإنغماس في مستنقع الشهوات والغرائز، وهذا ما جعل من الإنسان متضائلاً ولا قيمة له، لأن القيمة المعنوية تكمن في عقله وحريته واختياره وسمو ذات الإنسان التي توصله بالسماء.
فالحق الذي لا يُعمل به، هو اختلال كبير للتوازن الكوني، والباطل الذي يصبح حالة طبيعية في المجتمع، تدمير للحياة بكل معنى الكلمة، وتدمير للأخلاق والانسجام الطبيعي، فيكون موتا لكل شيء جميل في الحياة.
فالحق هو الطريق الصحيح الذي لابد أن نسير عليه، حتى نعيش حياة صالحة في إطار التوازن الكوني، كما في القرآن الكريم: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة: ٦) الصراط المستقيم هو الحق حيث يجعلنا نسير في ذلك الصراط الذي يقودنا نحو الحياة الصحيحة والسليمة والصالحة، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا.
لذا يجب على الإنسان أن لا يقع في حبائل الشيطان، فالمذلة نهايتها سوداء، لابد للإنسان أن يعيش الحياة الحق، وهذا خيار الإنسان، وحريته واختياره ليعيش حياة الحق باختياره، فالشيطان يأتي للإنسان بأشكال وأساليب كثيرة تجملها الأهواء مثل (الغاية تبرر الوسيلة)، فيقول الإنسان لنفسه أعصي ثم أتوب، ولكنه لا يتوب لأنها دوامة لن تنتهي.
الإنسان أقوى من الشيطان عندما يتمسك بالحق، لكنه حين يخرج عن الحق وينحرف فسوف يقع في حبائل الشيطان لذلك يقول الإمام الحسين (عليه السلام): «إِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً»، لأنه في طريق الحق "وَلَا الْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً"، فالإمام يعتبر الحياة التي تكون تحت ظل الظالمين مهانة، فهذه ليست حياة بل ذل وهزيمة للإنسان، لكن الحياة التي يكون فيها الإنسان حراً، ويعمل في إطار الحق، فهذه هي الحياة الصحيحة، كذلك فإن الموت الذي يأتي في إطار الحق والحرية والطريق الإلهي، يعتبر حياة وليس موتاً.
قال الإمام علي (عليه السلام) في أيام حرب صفين: "فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ ظَاهِرِين"، فالانتصار الحقيقي هو أن يحقق الإنسان قيمته ووجوده وكرامته وحريته وذاتيته، أما الإنسان الذي يريد أن يبقى في الذل، فهو بالنتيجة ميت، وهذا هو معنى الموت حيث يكون مستعبداً في الدنيا قد بدد قيمته وضيعها.
يمكن للإنسان أن يكون حراً حتى لو مات، ولكن إذا كان حياً ويعيش الاستعباد فهو ميت، لقد ركز الإمام الحسين (عليه السلام) على هذه القضية، فلا حياة بالعبودية بل الحياة بالحرية، فالعبودية موت وإن كانت حياة، والحرية حياة وإن كانت موتاً، يقول الإمام الحسين: «إِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً»، ثم يُكمل ويقول: "إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَاشِشُهُمْ" ، إن عبودية الدنيا هي سبب كل المآسي، لذلك لابد للإنسان أن يجعل من الدنيا وسيلة لحياته، وأن يكون حراً وغير راضخ ولا خانع لمعاصي الدنيا ولذاتها ومنافعها، وقد حاول بعض الفلاسفة أن يفسروا قيمة حياة الإنسان بأنها تكمن في النفع واللذة وامتاع الغريزة واللذة والنفع، وهذا من أسوأ التفسيرات وأكثرها ضحالة وسطحية.
إن هذا الإستهلاك والتكالب على الدنيا يدخل في دائرة اللاعقلانية غير المبررة لذلك فهي تمزيق لكل الثوابت والقيم الفطرية والأخلاقية وتدمير المعنى الغائي للبشرية، فالمصائب والكوارث الهائلة والفيضانات والحرائق كلها نتيجة لأفعال الناس، والفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
ليس هناك ثمن للإنسان إلا في شيء واحد، وهو الجنة، وإذا أردنا التفكير بمنطق التجارة، فهناك بعض الناس يبيع نفسه من أجل مئة أو عشرة أو عشرين دولاراً، وهو مستعد أن يقتل إنساناً من أجل مئتي دولار، أو يسرق أو يصبح عبداً للحاكم من أجل أن يحصل على بعض الامتيازات، أو ذلك السياسي الذي يركض وراء الحكم من أجل الامتيازات، فيبيع نفسه بثمن بخس.
لكن هذه ليست قيمة الإنسان، إن قيمته الجنة، وإذا أدرك الإنسان هذا المعنى في الحياة والموت كما قال الإمام الحسين ( عليه السلام)، فلابد أنه سيعرف قيمة نفسه وحريته ولا يبيع نفسه بأموال بخسة أو بأشياء بسيطة، يجب أن يكون للإنسان مواقف واختيارات صحيحة، ولا يركض أو يلهث وراء الأشياء اللماعة والبراقة، فينخدع بها وهي من حبائل الشيطان، فإذا وضع سقفا عاليا لقيمته، ألا وهي الجنة، فسيربح كل شيء.
اضافةتعليق
التعليقات