للصحافة طبيعة اختزالية؛ فهي تبخر ما يقع تحت يدها من أخبار، ثم تكتفه، ثم تقتطع منه، ثم تصيغه وفق ما يلائم مصالح ملاكها وتوجهاتهم السياسية أو الاقتصادية، ثم تبسّطه بحيث تكون قراءة الموضوع مناسبة للسواد الأعظم من قرائها، ثم تضع له عناوين عريضة تضخ فيها الكثير من الانفعالات (الأمر يذكرني بما كان يروى عن الصحافة الفرنسية إثر حقبة الحروب النابوليونية؛ فعندما هرب نابليون من منفاه في جزيرة ألبا Alba الإيطالية كتبت الصحف الفرنسية في عناوينها «الوحش يهرب من ألبا»، وعندما اقترب من فرنسا كتبت «نابليون يهرب إلى فرنسا»، ولكنه عندما دخل فرنسا فعلاً كتبت «الإمبراطور يدخل البلاد»).
لنتذكر أن الصحافة صناعة بالنهاية، والصناعة يحركها هاجسا المصلحة والتسويق دائماً. ويلفت المؤلف النظر إلى صحافة التابلويد Tabloid تحديداً، وهي النمط الصحفي الذي يهتم بموضوعات الفضائح والترفيه وقصص الاهتمام الإنساني وأخبار المشاهير (الذين يأتون من مجالات الترفيه على الأغلب، والذين تجتذب حياتهم الخاصة اهتماماً يتساوى مع أو يفوق حياتهم المهنية)، إدراكاً من وسائل الإعلام للعوائد التجارية التي تجنيها من وراء إشباع شهية التافه مع الجمهور لقصص المشاهير وصورهم.
إن صناعة صحافة التابلويد ككل تقوم في جانب كبير منها على ممارسات تتفق جميعها على نشر المادة التافهة للقراء، وأغلبها يتعلق بملاحقة المشاهير وتصويرهم والتنصت عليهم. ولكن المرء هنا لا يملك إلا أن يتساءل: ما هي حدود حرية التعبير؟ هل هناك سقف أعلى لحرية تدفق المعلومات؟ ما هو نطاق سرية المعلومات الخاصة؟ هل يمكن تعيين الحد بين المعلومات المتاحة للعامة وتلك القاصرة على أشخاص معينين؟ ما هي نقاط التماس بين حق القراء في معرفة الحقيقة من جهة وحق الأفراد في الخصوصية من جهة أخرى؟ إلى أي مدى يكفل الدستور هذه الحقوق؟ ثم كيف هي فعالية النظام القضائي بهذا الصدد؟.
لا شك أن التعاطي مع هذه الموضوعات يهدر أسئلتها الكبرى هذه، مما يجعلها منطقة خصبة جداً للبحث القانوني. ولعل لهذا التعاطي التافه الذي أشير إليه آثاراً فادحة على ضحايا هذه الصحافة. فللروائي الألماني باتريك زوسكيند قصة بعنوان «هوس العمق»، تعطي مثالاً واضحاً على مثل هذه النتائج المحزنة، وهي تسرد حكاية عن فنانة شابة تقيم معرضها الأول، فيكتب عنها أحد النقاد في الصحف واصفاً إياها بكونها فنانة موهوبة «ينقصها بعض العمق».
وسرعان ما ردد هذه العبارة كتاب أفاقون، فانتشرت في الصحف والمجلات بسبب الكتاب الذين كانوا فقط يكررون ما يسمعون عن غير علم، حتى أصيبت هذه الفنانة الشابة بالاكتئاب الذي انتهى بها إلى الانتحار، لتنشر الصحف في اليوم التالي عن «انتحار فنانة واعدة كان ينقصها بعض العمق». وهكذا، صارت العبارة التافهة الصادرة عن كاتب تافه أداة قاتلة قضت على شابة في بداية حياتها.
ولكن اعتبارات التفاهة لا تتعلق بنوعية الصحافة فقط، بل بنوعية القراء أيضاً. ففي مقال شهير له حول هذا الموضوع، يحذر الشاعر الأسباني بيدرو ساليناس Pedro Salinas من صحافة تؤدي إلى إنتاج من أسماهم بـ «الأميون الجدد»، فيقول:
ثمة أيضاً نوع من الأميين الجدد جزئياً الذي يمكن رؤية أصحابه يحومون حول أكشاك بيع الصحف كنحلات طنانة تحوم حول زهرة نضرة، بحثاً عن المقادير التي ستصنع بها عسل حياتها الفكرية.
إنهم لا يقرأون الكتب ولكنهم مفتونون بتكاثر المجلات وبمواضيع أغلفتها. هؤلاء أهل للشفقة لأنهم بعيداً عن إعفاء أنفسهم مشقة العناء كقراء، فهم في غاية السخاء والكرم حين يتعلق الأمر بها. يقرأون الأعمال الضعيفة بشراهة، يعودون لمنازلهم محملين بالمجلات التي يحرثون فيها بعيونهم لساعات، دون أن يحصلوا بالنهاية على أكثر مما يحصل عليه طفلي لهو بأحجية بانورامية لا يبدو أنها ستنتهي، عاجزين عن رؤية الصورة الكبرى التي يبدو فيها كل شيء في مكانه الصحيح، إن هذه المجموعة الجديدة تنمو ببطء، وقد حان الوقت لتسميتها ولإعطاء المنتمين لها وضعاً اجتماعياً. إنهم الأميون الجدد -the neo) (illiterates، وهم على درجة من التأثير والخطورة تتجاوز كثيراً الأميين أمية بحتة، فهم يرفضون البقاء في الدرك الأسفل مع الشيطان في ظلمات الجهل، إلا أنهم لا يطمحون للوصول إلى ضوء المعرفة المقدس. إنهم قادرون على كل شيء، ولا يجازفون بشيء... تعليم الناس كيف يقرأون ليس كافياً في أغلب الأحيان لينتزعهم من فقرهم الروحي الأساسي أو، وكما قال ت. س. إليوت بأن «التعليم لا ينتج الثقافة إلا في أضيق الحدود» ..
إن هؤلاء الصغار يبدأون حياتهم وهم مسلحين بمهارات القراءة والكتابة الأولى فقط، واثقين من أنهم قد تمكنوا من السيطرة على جهلهم الأولي، ثم يفاجأون لاحقاً بأن غريماً قوياً ينتظرهم عند الزاوية. إن هذه القوى الشريرة سوف تجذبهم إليها فتحولهم إلى مخلوقات بسيطة؛ أميين جدد يعيشون راضين في أمان الوعي المغيب، مستمتعين بملذات الحياة الاستهلاكية التي يوفرها العصر الحديث، ومع ذلك فهم محكومون بحكم مؤبد للعيش مدى الحياة في شكل مختلف من تخمة الجهل».
وهكذا، فإن أكثر الناس يقيناً هم عادة أكثرهم جهلاً، فهم على ثقة كاملة من صحة الأخبار المنشورة في الصحف، فيرونها عنواناً للحقيقة. الواقع، فإن نظام التفاهة لا يثبت فعاليته القصوى إلا مع مثل هؤلاء الناس.
اضافةتعليق
التعليقات