قال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: (إن ضوء الروح العقل، فإذا كان العبد عاقلاً كان عالماً بربه، وإذا كان عالماً بربه أبصر دينهُ). وهذا القول أطروحة فريدة يضعها الإمام بين يدي العارفين، فالعقل عند الإمام مدار الحجة على الإنسان، وهو سبيل الإطراد العالمي بما يزنهُ من دقائق الأمور، وهو أيضاً منار الهداية في الحياة، حتى اعتبره الإمام عدلاً لرسالة السماء وقيادة الأئمة للناس.
وبهذه الرؤية نجد اهتمام الإمام (عليه السلام) بالعقل الإنساني المجرد، وعّدهُ من الأصول التي لا غنى عنها في تيسير الحياة وضبط النفس، وهو يسلط الأضواء على العقل في رصد منابع الخير كلها، ولما كان المراد من العقل في هذه النصوص هو النضج المثمر والوجود الفاعل المؤثر وليس ما يقابل الجنون الذي يعني فقدان السيطرة على الشعور المنضبط والإحساس المتزن - كان الإنسان المجرد من المعرفة والمحروم من التعلم وإن كمل عقله؛ محكوما بالنقص الذي لا يُنكر ولا يُستر بسبب جهله المخل بدوره الإنساني النافع لنفسه ومجتمعه، ولذلك أضاف الإمام إلى ما تقدم منه في تكريم العقل: التنبيه على أهمية العلم وشأنهُ الكبير وأثرهُ العظيم في بناء الأفراد والمجتمعات.
ولما كان العقل المتكامل منحة إلهية من وجه، وتجربة ذاتية من وجه آخر، وجدنا القلة النادرة في الاجتماع البشري هي التي تتمتع به إدراكاً ومعرفة وفلسفة. وحينما تطورت الحياة العلمية في عصر الإمام بفضل الجهود المضنية للعلماء والباحثين والمترجمين، فقد وجدنا في ضوء ذلك تطوراً سريعاً للحياة العقلية، وكان هذا التطور مصاحباً لعلم الاحتجاج في أبرز فروعه، وللفن الجدلي في مظاهره، ولازدهار حياة المقالات والفرق والاتجاهات. وليس غريباً أن نجد الحياة العقلية قد نشأت في ظل المناح السياسي، بيد أننا نجد للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وثيقة تاريخية في العقل، كانت وليدة الشعور بالمسؤولية، ولم تتأثر بأية عوامل سياسية إطلاقاً، وهي عبارة عن رسالة مهذبة نابضة وجهها الإمام إلى تلميذه العظيم هشام بن الحكم، وقد شرحها الفيلسوف المتأله الملا صدر الدين الشيرازي المعروف بـ« الملا صدرا» في رسالة خاصة، وقد تعقبها بالتحليل الموضوعي الأستاذ باقر شريف القريشي (دام علاه).
ولا أعتقد بوجود رسالة في العقل قد مهدت للحياة العقلية المتطورة بهذا المستوى الفكري كهذه الرسالة التي ربط بها الإمام بين ذوي العقول وما بين ما بينه القرآن الكريم من الاعتداد الرفيع بهم، وقد أكد خلقه في ظاهرة أخرى يشير لها الإمام فيما حققه أصحاب العقل السليم من المعرفة بأسرار الهداية والكون بإفاضة من الله تعالى وقد جعل العقل حجة يستدل بها على عظيم السماوات والأرض، وما فيهما من الكائنات المرئية وغير المرئية ، والعوامل الحسية والمتصورة المعلومة والمجهولة والمتخيلة، وما في ذلك من عجائب صنع الله في الخلق والإيجاد والتصريف والإدارة والإبداع، مما جعله الله برهانا على معرفته الخارقة، ودليلاً على عظيم قدرته التي لا تدرك.
وبالإمكان الإشارة إلى نهج هادئ لنقاط الارتكاز في الرسالة:
1. أبان الإمام على أن الله خوف الذين لا يعقلون من عقابه، وقرن العلم بالعقل، فقال تعالى: (وتلك الأمثل نضربها للناس وما يعقلها إلا العلمون).
2. اعتبر الإمام أن لكل شيء دليلاً (ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شيء مطية، ومطية العقل التواضع).
وأن العقل حجة باطنة على الإنسان والعاقل لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.
3. الصبر دلالة وعلامة واضحة على قوة العقل فالعاقل من اعتزل الناس وأهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله تعالى.
4. إن العاقل قد رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، فالعقلاء تركوا فضول الدنيا، وإن العاقل نظر إلى الدنيا وأهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة، ونظر إلى الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما.
5. ورأى الإمام رؤية مجهرية: (أن العاقل لا يكذب، وإن كان فيه هواه) فيجيب إذا سُئِل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله.
وكان الإمام بذائقته الفطرية الخالصة يدرك دور العقل في الحياة الاجتماعية، ولديه تصور عريق بتقلبات المناخ الاجتماعي، ويعرف جيداً توجه السلطان لتسخير الحياة العقلية للسير في ركابه وتلبية رغباته، فأراد للشعب التمتع بجوهرة العقل، لتمنعه وتعصمهُ عن الانزلاق الذي تضيع فيه الكثير من العقول.
اضافةتعليق
التعليقات