ذائقة جوفاء تهضم أي محتوى وتتابعه مثنية عليه، وترقص على ماتبقى من ثقافة ومبادئ لتجعل من كل شيئ يشوه البصر إلى لوحة فنية بسعر مرتفع يأخذها أصحاب الثراء وان كانت خالية من المحتوى فقد كان من الكافي أن تمتلك شهرة ثم يرمونها فضلات فيظن من هم دون ذلك أنها الرفاهية والابداع وتصبح تلك الصورة خاوية الأركان ولكن قيمتها باهضة في مجتمع لايهتم بالذائقة بل بالشهرة.
فترى بشيء من الحزن يودع أصحاب العقل الراجح والفكر النير الثقافة إلى مثواها الأخير بعد أن اجتاح عصر الميديا سيطرة شخصيات هزيلة جوفاء لا تملك من الأبواب سوى الكذب ومن المفاتيح سوى التفاهة والأيدي تصفق لهم بحرارة على محتوى عقيم وأبله.
ياترى هل إن ما يفعله المرء هذه الأيام في سبيل تحقيق الشهرة يستحق كل هذا العناء؟
خطوات مبعثرة وألفاظ لا تمتد للذوق بصلة، مصطلحات غريبة أو أقرب إلى اللامعنى مجرد أنها ستلاقي صدى واسع فعلى خطى المثل: (خالف تعرف) سار أغلب من نراهم امتلكوا نطاقا واسعا على ساحات السوشيال ميديا حتى أصبحت تلك المصطلحات مزحة يتناقلها العامة فنجد أن المحتوى الفارغ حقق مشاهدات بالملايين وأصبح صاحبه بين ليلة وضحاها محبوبا ومقدسا عند البعض ما إن تطاله كلمة منك حتى يهجم عليك جيش الكتروني بداعي الحرية الشخصية، ولكن إن كنت قد أسدلت الستائر عن موضوع علمي أو ثقافي ستجد ردين أو ثلاثة أحدهما يجامل والآخر باستهزاء يرد عليك أنك شخص ممل وهنا تكمن أول خطوات في شك الشخص بذاته هل هو على صواب أم ماذا؟
أليس من المفترض أن يكون الواقع عكس هذا، إنه حتما ليس من الطبيعي أن ينصاع الناس لكل ماهو تافه فقط ليبرهنوا أن الوقت تغير، وهل التغيير السلبي هو ما طمحت إليه اليوم مجتمعاتنا!، هناك فرق كبير بين الشهرة والشهيرة فما نراه اليوم هو شهيرة إنما مفهوم الشهرة ربما بملخص بسيط هو تقديم المحتوى المميز والأسلوب المرهف، يتمكن صاحب الإنتاج الفني من السيطرة على الذائقة المستهلكة لذلك الإنتاج، ولكن نحن نتحدث عن ميديا القرن العشرين، ننظر إلى الإنتاج الفني، من فن ومسرح وبرامج الكترونية بشكل أدق، فإننا في زمن تكون الغاية فيه تتمثل بخلق الشهيرة لا الشهرة، فبمقدار ما تقدم من عرض ساذج، ويحوتي على ممارسات تافهة وساخرة، يكون معياراً لنجاحه ونفاذه لذائقة المتلقي، لأن الغاية كما أسلفنا لا تتمثل بأن تكون شخصاً مشهوراً، بقدر ما تكون شخصاً مُشتهراً.
لِم يحدث هذا من الأساس؟
عندما تبحث عن الاحتياجات البشرية، فإن عالم النفس الأميركي "أبراهام ماسلو" سيعطيك الإجابة، وفق دراسات قام بها على زائري عيادته، على النحو التالي: في البدء، يحتاج الإنسان إلى إشباع رغباته الفسيولوجية، ثم الأمنية، مرورا بالرغبات الاجتماعية، ليقف بك التدرج عند الحاجة إلى التقدير، ثم يمضي إلى الحاجة الذاتية في التميز والتفرد، الحاجة إلى التقدير إذن، ذلك الدافع الطامح إلى إشباع رغبته والمتمركز حول "الأنا"حيث تقترن حاجات تحقيق الذات اقترانا وثيقا بالسعي وراء الشهرة وحب الظهور.
على ما يبدو أن "باومان" يمتلك إجابة أخرى، فهو يرى أن الشهرة فقدت قيمتها عما كانت عليه فيما سبق، ويضع في ذلك مقارنة بين شهرة الشهداء، مثلا في العصور السابقة، وشهرة نجوم الصورة الحالية، فيقول: كانت شهرة الشهداء والأبطال تستمد من أفعالهم، وكانت ذكراهم حيّة حتى يمكن تخليد تلك الأفعال، فالأسباب التي وضعت المشاهير في بؤرة الضوء هي أقل الأسباب أهمية للاشتهار، فالسبب الرئيسي هنا هو تكرارهم وانتشارهم بصورة فجة على وسائل التواصل دون أن يمتلكوا سببا نافعا لشهرتهم.
مما يجعلهم قابلين لأن يكونوا كلمات خطت بقلم رصاص يمكن أن تخفيها ممحاة محتوى أكثر تفاهة آخر، هناك الكثير من الشخصيات التي ظهرت واختفت بمجرد ظهور آخرين لكن مايدعو للحزن أنهم يفعلون مايزيد عن التفاهة ليتعدى محور الخزي ليعودوا للساحة حتى لو على حساب أنفسهم، أي يحولهم إلى سلع، فبعد عرض الذات الذي يتجاوز أحيانا أدق الخصوصيات كما تسمح بعض (الفاشيونيستا) للجمهور بمعاينة تفاصيل يومها الخاصة، يقف المشهور ثانية على خشبة الجمهور كسلعة يمكنه الإستغناء عنها والإنتقال إلى غيره، فالاشتهار يختلف عن الشهرة في كونه يتكون من أحداث منفصلة، مجموعة من المنشورات أو الفيديوهات غير ذات القيمة.
رغم أن المتناقضات لا يمكن أن تجتمع في مكان واحد، لكن التقدم والتخلف، التطور والتهور، الشهرة والشهيرة، اجتمعت في عصرنا لدرجة أننا أصبحنا نتساءل عن الغد هل ياترى سيسجلنا التأريخ أم أننا سنكون تلك الورقة الممزقة في الكتاب، أو هل المستقبل سيمتلك كتاب أو أنه هذه الشريحة الفارغة ستحكمه، وفي أي جانب سنكون نحن من استنكرنا الفراغ.
كثيرة هي الأسئلة التي من الممكن أن نغيرها الآن بفعل واحد، أن لا نقدم التقدير والقيمة إلا لمستحقيها، ببساطة علينا أن نفرق بين الظريف والتافه، الكاذب والصادق، النافع والضار، أن نحدد في أي طرف نحن دون أدنى تعاطف لرسم مستقبل ناضج يستحق كل هذا الكفاح.
اضافةتعليق
التعليقات