كان ومايزال الكثير من الناس يرى من كلمة العيب ثوبا فضفاضا تختبئ تحتها معتقدات المجتمع البدائية، على أساس أن الكثير من أفعال المجتمع ترسخت بالقبول أو الرفض وفق معتقدات لا وجود لها في الكتب السماوية وليس لها أي فرع ثابت في الدين.
فانضباط الإنفعال حدد بمعايير وأسس وضعتها طبيعة المجتمع على وفق نوعية الأفكار السائدة فيها.
لكون فكرة العيب قابلة للإنتشار في كل الأحوال ولكن المتحكم الوحيد في قبولها ورفضها هو الجمهور، فإذا تماشى معها بصدر رحب إنتشرت الفكرة حتى تحولت من فعل إعتيادي لا يمس الدين إلى فعل عيب يمس المجتمع، وإذا لم يتقبلها وفعل العكس إستطاع أن يحد من إنتشارها وساهم في طمسها، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل للأفكار والمعتقدات تأثير كبير وواقعي على الشريحة المثقفة؟.
يذكر غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير بأنه عندما تتوصل فكرة ما بواسطة مجريات متعددة إلى الإنغراس في روح الجماهير فإنها تكتسب قوة لا تقاوم وينتج عنها سلسلة من الإنعكاسات والنتائج.
فلا ينبغي علينا أن نعتقد أن مجرد البرهنة على صحة فكرة ما يعني أنها سوف تفعل مفعولها حتى لدى الناس المثقفين فعلا.
ويمكننا أن نتحقق من ذلك عندما نرى أن البرهنة الأكثر وضوحا ليس لها تأثير على معظم البشر، صحيح أنه يمكن للحقيقة الساطعة أن تلقي أذنا صاغية لدى السامع المثقف، ولكنه سيعيدها فورا بواسطة لا وعيه إلى تصوراته البدائية.
فقد نرى الكثير من المثقفين والمتعلمين مقيدين بأفكار بدائية جدا وضيقة المدى، فثقافة الانسان لا تحده من الاحتفاظ ببعض الأفكار والمعتقدات البدائية، كما أن للمشاعر والعواطف دورًا مهماً في تغيير مجرى الأفكار عند البشر.
ولكن يبقى للزمن الدور الأكبر، فهو الذي يطبخ آراء وعقائد الجماهير على نار هادئة، بمعنى أنه يهيئ الأرضية التي ستنشأ عليها وتبرعم.
إذن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها بأن الأفكار تتغير عبر الزمن، ففي الماضي كان سفر الفتاة من أجل التعليم فعل غير مقبول تماما في المجتمع ويدرج في خانة العيب المطلق، ولكن اليوم نشاهد الأمر قد بات أكثر مرونة من ذي قبل وأصبح هنالك الكثير من الفتيات يسافرّن إلى أماكن بعيدة ويسكنّ الأقسام الداخلية من أجل التعليم.
"إذ إن بعض الأفكار التي يمكن تحقيقها في فترة ما تبدو مستحيلة في فترة أخرى، فالزمن يراكم البقايا العديدة جدا للعقائد والأفكار، وعلى أساسها تولد أفكار عصر ما، فهذه الأفكار لا تنبت بالصدفة أو عن طريق المغامرة وإنما نجد جذورها تضرب عميقا في ماض طويل وعندما تزهر يكون الزمن قد هيأ المجال لتفتحها، وإذا أردنا أن نعرف منشأها فينبغي دائما أن نرجع في الزمن إلى الوراء، فهي بنات الماضي وأم المستقبل وعبدة الزمن دائما".
ومثال على ذلك هو فكرة سلب الإحتشام من النساء المسلمات، نشاهد كيف أخذت اليوم تتوسع بعدما غلفوها بالتطور والإنفتاح والحرية الشخصية، فبعدما كان المجتمع في الماضي ينظر إلى المرأة السافرة نظرة الدونية أصبح اليوم ينظر إليها نظرة إعتيادية على أنها حرية شخصية!.
كيف تغيرت هذه النظرات وانزرع القبول في داخل المجتمع لهذه الفكرة بعدما كان يرفضها وبشدة؟
إن هنالك أيادٍ كثيرة وراء تبلور هذه الأفكار على المجتمع والهدف بالتأكيد ليس هدفا ساميا والمراد منه كان ولازال ضرب الأفكار الإسلامية وانتزاع المعتقدات السليمة من الأمة ودثر ثقافتها الأصيلة، والانحراف بها إلى الهاوية من خلال سنوات عمل كثيفة على الشباب والفتيات من أجل خلق جيل بعيد كل البعد عن المفاهيم الإسلامية ومتنكر بالثقافة الغربية، وإن إستهداف هذه الشريحة بالذات لم يأتِ عبثا بل لأنهم يعرفون بأن هذه الشريحة تمثل بنية المجتمع الحقيقية فتم ترصدها من خلال الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية واستطاعوا بث الأفكار السامة والمنحرفة بطريقة ناعمة وجميلة المظهر.
فالتغيرات التي باتت تحدث في ثقافة الأمة واضحة جدا بأنها ناتجة من أفكار مستوردة لا تمت بالثقافة العربية الأصيلة أي صلة، فقد بات التقليد هو الركيزة الأساسية التي يتماشى معها الشاب العربي، إذ إن الغرب استطاع أن يوهم الشرق بأن ثقافتها هي مدعاة الإنفتاح والتطور في العالم، فأصبح يقلدهم في الملبس والمأكل واستورد منهم حتى الأفكار والمعتقدات الخاطئة التي لا تتماشى مع الدين وترسخت في عقله وسيتوارثه إلى الجيل القادم ويربي أطفاله على هذه الأفكار الخاطئة، وهكذا ستلحق البنية الثقافية ضررا كبيرا في المستقبل، وستتشوه الأفكار وتنتج أفكارا تلوث الفطرة الإنسانية التي فطرنا الله عليها.
ولهذا التغيير السريع الذي نشاهده في أفكار الجمهور ومعتقداتهم أسبابا ثلاثة مختلفة.
السبب الأول:
هو أن العقائد القديمة تفقد بالتدريج هيمنتها على النفوس وبالتالي فلا تعود تؤثر على الآراء المؤقتة لكي توجهها في اتجاه معين كما في السابق.
السبب الثاني:
إن تلاشي العقائد القديمة يترك المكان حرا لمجموعة من الأفكار الجديدة لتأخذ مكانها وتتفشى في المجتمع من جديد، فكل فكرة تُضرب من أجل فكرة أخرى.
السبب الثالث:
إن الدور الكبير الذي تأخذه الصحافة والإعلام اليوم يستطيع من خلاله أن يتحكم بعقل المشاهد ويلعب على وتر معتقداته وتغييرها كيفما يشاء، وذلك فقط في حال لم يكن المشاهد قد حصن أفكاره من الوقوع في مصيدة التضليل والتكذيب.
فمنذ القدم كانت الوسيلة الأولى لإسقاط أي أمة هو هدم ثقافتها وانتزاع هويتها الأصلية منها، وهذا ما فعله هولاكو بعدما قام بحرق الكتب لأنه عرف بأن ضرب أي بلد هو بضرب علمها وثقافتها، والدرع الذي من الممكن أن يحمينا من هذه الهجمات الثقافية هو الإعتزاز بالثقافة الأصيلة والهوية الإسلامية، ثم التحصين الكامل من ناحية الأفكار، لمواجهة أي هجمات تتعرض لها الأمة والرد عليها، بالإضافة إلى المتابعة المستمرة لما يحصل في العالم من أخبار وأحداث من مصادر موثوقة، والتأكد من صحة الأخبار المنشورة وعدم تداولها إلاّ بعد التأكد من صحتها، لتجنب الوقوع في دائرة التضليل الإعلامي، والحد من التقليد الأعمى للعالم الغربي، وإستيراد الأفكار النافعة منهم، ونبذ المعتقدات البدائية الخاطئة التي لا تتماشى مع الدين الإسلامي والترحيب بكل الأفكار السامية التي تتوافق مع الدين وتفتح آفاقا واسعة للتعلم والتطور.
اضافةتعليق
التعليقات