بات الخلاف مع الأطفال حول الوقت الذي يقضونه أمام الشاشات وفي استخدام الأجهزة الإلكترونية جزءاً مثيراً للكآبة في الحياة الأسرية بالنسبة للعديد من الآباء في العصر الرقمي الذي نعيش فيه، وأصبحت معرفة الحد الفاصل بين الاقتصاد والإسراف في هذا الأمر هدفاً يؤرِّق معظم الآباء، حسب تقرير صحيفة The Guardian البريطانية. باتت كل مرحلة من مراحل الطفولة والمراهقة مصحوبةً بتحديات جديدة تنشرح لها صدور الآباء، بدءاً من الرضع الذي يدخلون في نوبات غضب عند أخذ أجهزة الآيباد منهم، ومروراً بالأطفال الذين يشاهدون مقاطع اليوتيوب طوال الليل، أو الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم الحادية عشرة ويلحّون للعب ألعاب الفيديو المصنفة لعمر الثمانية عشرة بحجة أنَّ "جميع أصدقائهم" يلعبونها، أو ذوي الأربعة عشرة ربيعاً الذين لا يبرحون الإنستغرام أبداً.
وحتى سنواتٍ قليلة ماضية، تركزت النصائح التربوية الموجّهة للوالدين حول تخصيص "ساعاتٍ محددة للشاشات" بتخصيص مدةٍ كافية قدرها ساعتان أو أكثر يومياً لاستخدام الأجهزة الإلكترونية، وأنَّ استخدام هذه الأجهزة أكثر من ذلك قد يكون مضراً. ولا تزال الجمعية الأميركية لأطباء الأطفال توصي بساعةٍ يومية كحدٍ أقصى من "البرامج عالية الجودة" للأطفال الأصغر من 6 سنوات، غير أنَّها تعقب ذلك ببساطة بتشجيع الوالدين على "وضع حدود ثابتة للوقت الذي يقضيه الأطفال في استخدام الشاشات"، وتخصيص وقتٍ للأسرة يُمنَع فيه استخدام أي جهازٍ إلكتروني.
ومن غير الواضح ما إذا كان يُقصَد بهذا أنَّ قضاء 4 ساعات في ألعاب الفيديو صبيحة يوم العطلة الأسبوعية أمر مقبول أم لا؛ أو ما إذا كان تقسيم الوقت الذي يقضيه الطفل على جهاز الآيباد إلى 3 جلسات تبلغ كل واحدةٍ منها 20 دقيقة أفضل من قضاء ساعةٍ متصلة عليه.
طول المدة ليس المشكلة، بل ما يشاهدونه
سيتنفس العديد من الآباء الصعداء حين يسمعون أنَّ بحثاً أُعِدَّ مؤخراً يشير إلى أنَّ طول المدة التي يقضيها الأطفال أمام الشاشات لا يؤثر عليهم بالقدر الذي تؤثر به طبيعة الوقت الذي يقضونه أمامها؛ وهل هو وقتٌ يقضونه في المشاهدة السلبية للتلفاز أو متابعة الشبكات الاجتماعية، أم أنه وقتٌ نشطٌ لممارسة ألعاب الفيديو والتواصل مع الأصدقاء عبر الواتساب، أم الانخراط في نشاطٍ مبدع على iMovie. وتُشبِّه جوسلين برور، عالمة النفس المختصة في مفهوم "التغذية الرقمية"، الحميات الإعلامية بالحميات الغذائية؛ وترى أنَّ علينا أن نتبع في الاثنين المبدأ نفسه: أي بدلاً من عدِّ السعرات الحرارية (أو الزمن الذي نقضيه أمام الشاشات)، الأفضل أن نفكر في طبيعة ما نستهلكه، حسب صحيفة The Guardian البريطانية.
التكنولوجيا في الحياة الأسرية
وتقول برور: "الأمر لا يقتصر على احتمالية استهلاكك بعض الوجبات الرقمية غير المغذية، وإنما يشمل أيضاً علاقتك بالتكنولوجيا والدور الذي تلعبه في حياتك الأسرية. ما نعرفه أنَّ استخدام الشاشات لتهدئة الأطفال أو إسكاتهم يؤسس لنمطٍ مقلق من الاعتماد على الأجهزة لتهدئة الطفل (أو المراهق أو البالغ) أو تشتيت ذهنه عن معايشة عواطف مزعجة أو غير مريحة.
إذن، ما نحتاجه فعلاً هو تجنب استخدام الشاشات لتسكين نوبات الغضب، تماماً كما نحتاج إلى تجنب تناول (الحلوى) للحصول على السكينة العاطفية". الأمر الأكثر أهمية بالنسبة للأطفال الصغار هو ما إذا كان الوالدان والأطفال يلعبون معاً أو يشاهدون المحتوى معاً أو يتصفحونه معاً.
الحياة الاجتماعية أكثر أهمية لطفلك
واستنتجت دراسة، أُجرِيَت على 20 ألفاً من الآباء ونشرها معهد أكسفورد للإنترنت وجامعة كارديف نهاية العام الماضي (2017)، عدم وجود أي رابط بين تحديد ساعات استخدام الأجهزة وعافية الأطفال. وقال الدكتور أندرو بريزبيلسكي رئيس الباحثين العاملين على الدراسة: "تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أنَّ السياق الأسري الأوسع، والكيفية التي يضع بها الآباء قواعد قضاء الوقت مع الشاشات الرقمية، ومدى مشاركتهم بفاعلية في استكشاف العالم الرقمي مع أبنائهم، كلها أمورٌ أكثر أهمية من مقدار الوقت الذي يقضونه أمام الشاشات". وعلى نحوٍ مشابه، انتهت دراسة أخرى أجرتها جامعة ميشيغان على أشخاصٍ تتراوح أعمارهم بين 4 سنوات و11 سنة إلى أنَّ "الكيفية التي يستخدم بها الأطفال الأجهزة، وليس مقدار الوقت الذي يقضونه عليها، هي المؤشر الأقوى على وجود مشكلاتٍ عاطفية أو اجتماعية ذات صلة بإدمان الجلوس أمام الشاشات". غير أنَّ مؤلفي الدراسة ذكروا أنَّ القلق من استخدام الأطفال الشاشات أمرٌ مسموحٌ به حين يؤدي هذا الاستخدام إلى سوء السلوك، أو فقدان الاهتمام بالأنشطة الأخرى، أو بالحياة الأسرية أو الاجتماعية، أو الانسحاب، أو استخدام أسلوب الخداع".
تخصيص وقت لاستخدام الأجهزة أصبح غير فعال
ويتفق معظم الباحثين على أنَّه على الرغم من أنَّ تخصيص وقتٍ محدد لاستخدام الأجهزة الرقمية أمرٌ تجاوزه الزمن، فإنَّ هناك لحظات يكون فيها للإفراط في استخدام الأجهزة أثرٌ سلبي، بما يؤثر على النوم والصحة والمزاج. وانتهت دراسةٌ، أُجرِيَت في شهر يناير/كانون الثاني 2018، إلى أنَّ "المراهقين الذين يقضون وقتاً قصيراً في التواصل الإلكتروني كانوا أكثر سعادة"، رغم أنَّ اقتراح الدراسة باستخدام الأجهزة الرقمية ساعة واحدة يومياً أمرٌ مثير للضحك بالنسبة لأي شخصٍ يحاول أن يُربِّي مراهقاً. غالباً ما يأخذ الحديث عن الأطفال والتكنولوجيا منحىً سلبياً، وإن كان لا ينبغي أن يكون كذلك. فالإنترنت وألعاب الفيديو يمكن أن تكون مصدراً للمرح والحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى توفيرها متنفساً إبداعياً للصغار. وتقول الجمعية الأميركية لأطباء الأطفال: "من بين الفوائد المثبتة بالدليل لاستخدام الشبكات الرقمية والشبكات الاجتماعية التعلم المبكر، والتعرض لأفكارٍ ومعارف جديدة، وزيادة فرص الحصول على منافذ للتواصل والدعم الاجتماعي".
الحد المعقول يختلف من طفل لآخر
إذن، هناك إجماعٌ على أنَّ الوقت الذي تقضيه أمام الشاشات في حد ذاته ليس ضاراً، وأنَّ الحد المعقول لهذا الوقت يتباين تبايناً شاسعاً حسب سلوك الطفل وشخصيته. فليس ثمة جدوى من الانشغال أكثر من اللازم بعدد الدقائق التي يقضيها أطفالنا يومياً بصحبة الشاشات؛ بل ينبغي أن يبذل الآباء وسعهم للتأكد من أنَّ ما يشاهده أبناؤهم ويلعبونه ويقرأونه عالي الجودة وملائم لأعماره وآمن بالنسبة لهم، وأن ينضموا إليهم كلما أمكنهم ذلك.
والتوازن بين العالَمين هو المهم
تقول برور: "من الأهمية بمكان إحداث توازنٍ بين العالَمين الإلكتروني والرقمي، وبين الترفيه والتعلم، ومن الصعب فعلاً (وضع وَصفة) لهذا الأمر تصلح لجميع الأطفال بأعمارهم وسياقاتهم الأسرية المختلفة. يُظهِر البحث أنَّ عدم تصفح العالم الرقمي أمرٌ له أثرٌ سلبي على الأطفال؛ فالأمر إذن يتعلق بالتعرف على القدر الصحيح الملائم لكل طفل، مع اتباع منهج شامل في التعامل". حسب عربي بوست.
اضافةتعليق
التعليقات