الانسان لا يحس بوطأة الحيز الفكري الضيق الموضوع عليه، إلا اذا انتقل إلى مجتمع جديد ولاحظ ان هنالك افكار ومفاهيم مغايرة لمألوفاته السابقة، عندئذ يشعر بأنه كان مثقلا بالقيود الفكرية وان فكره بدأ ينفتح وينضج، ويكون عندها قد تخطى عتبة الانغلاق الفكري، وبدأ يستشعر الحقائق ويبصرها بعين أخرى غير التي كانت له في السابق.
فنظرته للأشياء تكون قد اخذت منحاً أخر وفق معايير أخرى اكثر سعة من الأولى، فما كان ينكره ويستغربه بالأمس جملةً وتفصيلا من خلال منظاره الفكري الضيق، أصبح اليوم يراه ممكناً قابلاً للبحث والنقاش، وهذه احدى سمات المثقف الواعي المدرك لما حوله من متغيرات ومعطيات، فكثيرا ما نجد انفسنا مقتنعين برأي من الاراء، ثم لا يكاد ان تمضي على قناعتنا به فترة من الزمن حتى تضعف تلك القناعة، وقد ننقلب احياناً على رأينا الأول انقلاباً كبيراً.
فالانسان بمدركاته التكوينية يخشى بل يخاف من كل ما هو جديد وما لم يسبقه اليه احد وما لم يعهده من قبل، فربما تكون هذه المنهجية هي أحدى وسائل الدفاع الفطرية لمتبنياته ومكتسباته الذاتية التي اعتاد عليها او التي اوحى اليه بها من غيره، فعندما تصطدم فكرته ومتبنياته بطرح اخر جديد عليه، مغاير لما اعتاده وألفه من قبل، فبدل ان تتزاوج وتتلاقح الافكار ببعضها البعض، تجده قد اضطرب اضطراباً شديدا وكان امام مخاضا عسيرا.
فما يكون امامه عندئذ إلا خيارين اثنين، فأما ان يكون من المنكرين المعاندين، منطلقاً بذلك من البعد الأول لمنهجية الدفاع عن متبنياته وفق الأطار الفكري الضيق المنبثق من عاداته وتقاليده التي اعتاد عليها، او انه يكسر القيود التي احاطت به والاغلال التي بين يديه ويرفع العصابة عن عينيه لينظر بمنظار اكبر سعة ٍ من عدسته الأولى، باحثا ومتحققاً ومتحرياً بدون عناد وتعصب، فمثلا كما يقول احدهم "لو كانت لديك تفاحة ولدي تفاحة وتبادلناهما، فسيبقى لكل منا تفاحة واحدة، اما لو كانت لديك فكرة ولدي فكرة وتبادلناهما فسيكون لكل منا فكرتان .
كلما كان تفكيرنا واضحاً، كنا قادرين على اتخاذ أفضل القرارات والتعامل مع مشاكلنا وأيضاَ تكون لنا القدرة على وضع الأمور في منظورها السليم. وإذا استطعنا أن نحافظ على التفكير بطريقة سليمة فسوف نصبح أكثر قدرة وواقعية في وضع الأمور في نصابها، وأن نكون حذرين جداً من بعض الممارسات التي تشل أو تعيق تفكيرنا بطرق سليمة، ومن اهم هذه الطرق السليمة التي تبعدنا عن التفكير السقيم، عدم التسرع في الحكم على الأشياء بناءا على افتراضات غير علمية، وأن لا نتجاهل المعلومات التي لا تتلاءم مع رغباتنا.
أو أن نقوم بتحوير المعلومة بما يتناسب مع مصالحنا الشخصية، وان نلوي عنق الحقائق والبراهين لما يناسب رغباتنا، وأن لا نخفي بعض المعلومات من أجل إخفاء الحقائق، حيث إن الأحكام السريعة أكثر عرضة للتأثر المبالغ فيه بالأمور التي لا علاقة لها بالموضوع من الأحكام المدروسة. إن إنعدام التفكير العلمي الصحيح لدى جل الشعوب هو السبب الرئيسي للتخلف عبر التاريخ، بل سبب للبشرية الكثير من المآسي والنزاعات والدمار والشقاء، فأخطاء التفكير سبب رئيسي في التعصّب والتزمّت والانغلاق أيضا الذي يقود للكراهية والحروب بين البشر، ولاسيما في مجال الإعلام والسياسة، وفي مجال ترويج بعض الأفكار العَقَديَّة أو الحزبية أو القومية أو الإقليمية.
حيث يجب أن نتعلم التفريق بين الفكرة التي تقوم على أساس من المنطق والواقع والحقيقة، والفكرة التي تقوم على المغالطات وعلى مخاطبة الرغبات الدفينة ومكنونات اللاشعور والحاجات والرغبات النفسية، وتؤثر فيها وتصوّر لها الباطل حقاً.
اضافةتعليق
التعليقات