الوداع يا شهر رمضان.. أنت المبارك ومنك تعلمنا معنى المقام وجمال الكلام، أنت شهر فيه تتكامل مدارج الايمان، أعطيتنا كل الأمان وربيتنا على التحية والسلام ..
(السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللَّهِ الْأَكْبَرَ، وَيَا عِيدَ أَوْلِيَائِهِ).
في شهر رمضان، تتألق المعارف وتلبس هيبتها ودفائن العبر عبوة أخلاق تقلدت أسوار الابتسامة وحرف التعقل استقر بواطن النفس. كانت أيامه ولياليه دقائق ولحظات لا تنسى فهو استدراج تربوي، وأسحاره استفاقة نهضوية، ولقمة الشمس تعانق الغروب عند محطة الآذان، في هذا الشهر نبض القلب للحب الأخوي، واحترام أبوي، ومصافحة الصديق، وكل الحنان للأم لأنها بيت الأسرار ..
شهرنا المبارك جمعنا عند مأدبة الثقافة، لتستقيم النوايا، وتنتقي لنفسها بيتا من بيوته حتى تستلهم من دفئه شعورا يكابح الأنانية والطغيان، فتستيقظ الضمائر ويخط الإبهام حروف السلام ..
(السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً ، وَ أَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً ، وَ مَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ ).
حتى الولائم في شهر رمضان لها طعم ممزوج بالأنوار، منبر وكلمة وسفرة المنان على مد بصر المكان، وشارع الضمان يتوسل بالنفس المقبلة لتعيش الزهو وكرامة الخبز وعافية لطيفة وشكرا للخوان .
(اللَّهُمَّ يَا مَنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْجَزَاءِ، وَ يَا مَنْ لَا يَنْدَمُ عَلَى الْعَطَاءِ).
في الأيام الأخيرة من شهرنا المبارك، تكتئب الزاوية المفردة لتخالجها دمعة الفراق، كيف أهدي السلام؟! .. كيف أبارك نفسي ومنحها العتق من الرب المتعال؟!
هل استغرقتني الرحمة، وباب المغفرة كتب عليها الريان؟! تساؤلات على يقين الإجابة من السبحان، وقد شملني بعتقه من نار الغليان لأنه الكريم المتعال .
ليتك ياشهر رمضان تتقمص الإقامة على بعد نظر وتعيش قلبي الولهان.. لأني الضيف الذي استقر وجدانه على حب السجدة وتلاوة القرآن، فكانت آياته سلسلة علوم لا تحتضر بل تعطي حياة، كأنك ملاك على هيئة الاحسان. (فَسَمَّيْتَ دُعَاءَكَ عِبَادَةً، وَتَرْكَهُ اسْتِكْبَاراً، وَتَوَعَّدْتَ عَلَى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ. فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ، وَشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ).
تعرفت على الكثير من الحقائق، انتبذت نفسي هواجس الشيطان وودعت حروفه المعوجه واكتشفت أيضا أن بعض الزمالة أنها من الجان، قبيحة المنظر، كريهة المعشر، زاوية لا تحب الاخلاص ولا تنجب الوعد إلا على قسَم اللحظات.
(السَّلَامُ عَلَيْكَ غَيْرَ كَرِيهِ الْمُصَاحَبَةِ ، وَ لَا ذَمِيمِ الْمُلَابَسَةِ). علمتني الاعتزال على عهدة الصلاة لك وحدك والتزام أوقاتها وحب مفرداتها ..
فيك ياشهر الله اكتشفت أني انسان، وأن الذات قد توازنت ووجدت ظلها بإطمئنان، علمني الجوع فيه أن المادة حكمة الدنيا والحياة المؤقتة، لا استعارة فيه للضمير والوئام سوى اتباع أثر الخلود الذي يهزمني في لحظات موتي عند الختام ..
(تَشْكُرُ مَنْ شَكَرَكَ وَأَنْتَ أَلْهَمْتَهُ شُكْرَكَ، وَتُكَافِئُ مَنْ حَمِدَكَ وَ أَنْتَ عَلَّمْتَهُ حَمْدَكَ).
علمتني أن العطش، مفارقة لابد منه حتى تنمو أطراف قوتي واستبيح فيه مقاومتي فتتجدد بصيرتي ويزدهر بصري وعامود بيتي أشبه نورا يصّعّد السماء على متن ابتهالاتي ودمعاتي واستغفاري.
كيف لي أن أنسى لياليك وأصوات داعيك في سحرك وكيف ينفذ الدعاء أنياط قلبي وكلي امتنان اليك ..كيف لي أن أنسى دقائق الخوف والترجي عند اللجوء إليك في ليالي طاعتك، ليتها تطول وتنمو حتى ترافقني إلى برزخي وتؤنسني في شدتي..
علمتني ياشهر رمضان، أن الصلاة لا تُقبل إلا بوشاح النقاء، وأن الدعاء لا يستجاب إلا بالعطاء والتبجل ..وعلمتني أن الايثار فارزة من مفارز الضمان،
وأدركت أيضا أن السماح والعفو يجلي القلب من ضغينة الغليان، ويهب للنفس والذات عنوانا مغسولا من الذنوب والآثام .. وجملة استقرار.
(السَّلَامُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّعٍ بَرَماً وَ لَا مَتْرُوكٍ صِيَامُهُ سَأَماً ).
وكأني طيرا يعانق المحبة وفي منقاره حبة ضمير ووجدان، وارتبطت كل ذواتي لحب الخير وأصحابه وكلمتهم .. أدعو لي يا شهر الله أن ألتقيك مرة أخرى .
موعدنا قد اقترب على الفراق أيها الشهر المبارك ولي لقاء آخر معك محفوف بالأمنيات والطيبات بعون المنان.
اضافةتعليق
التعليقات