الذين لم يستنيروا بنور الولاية، ولم يستظلّوا بظلّها الوارف إذا نجوا من فخ النصب فإنهم لا ينجون من فخ الجهل؛ لذا تراهم يقعون في الأخطاء، في وجهات نظرهم وآرائهم فيما يتعلق بأحداث التأريخ الإسلامي!
في حديث لأحد الإعلاميين المعروفين في العالم العربي حول الإمام علي (عليه السلام) قال ما معناه: " إن عليا عندما استلم الخلافة لم يعرف كيف يحكم لذا انقضت سنوات خلافته بالحروب دون أن يحقق أي انجاز" !.
هذا الرأي يعكس بلا ريب الجهل العميق لقائله؛ لأنه لو قرأ التأريخ الصحيح بموضوعية وحيادية بدون أي خلفيات عقائدية وطائفية لعرف الحقيقة، بل ربما يكفيه أن يقرأ الخطبة الشقشقية للإمام علي (عليه السلام) قراءة واعية عميقة ليدرك بشكل قاطع حجم الظلم الفادح الذي وقع على الإمام علي (عليه السلام)، حيث يوجز الإمام تأريخه مع الأمة والأحداث منذ رحيل النبي (صلى الله عليه وآله)، إلى يوم استشهاده مرورا بفترة خلافته التي كانت مشحونة بالفتن والمشاكل والأوضاع الحرجة بشكل يثير الدهشة والاستغراب !
لقد توالت الجراح على قلب إمامنا من أمة جحدت كل ما يتعلّق بشخصيته، جحدت سابقته في الإسلام، جحدت فضائله ومناقبه، وجهاده في سبيل إرساء قواعد الدين، ثم جحدت إمامته وابتزّته منصبه الذي خصّه الله به في عملية انقلاب ممنهج تمّ التخطيط له منذ حياة النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم تنفيذه ببراعة وخبث شيطاني، وقسوة منقطعة النظير؛ لتؤول الأمور إلى غير ما أراده الله تعالى، فما كان من الإمام عليه (عليه السلام) إلا الصبر وكظم الغيظ حفاظا على مصلحة الدين والرسالة، وهذا ماعبّر عنه بشقشقته حيث يقول: "فرأَيتُ أَنَّ الصَّبْرَ على هاتا أَحجى فصبرتُ وفي العيْنِ قذًى وفي الحلْقِ شجًا أَرى تُراثي نَهبًا ".
بهذه المشاعر التي انطوى عليها قلبه الكبير، وبهذا الألم الروحي الممض عاش الإمام (عليه السلام) طوال فترة خلافة من سبقه مع اقصاء متعَمّد لأي دور فاعل في المجتمع الإسلامي؛ فلم يُعهد له بأي منصب يستطيع من خلاله أن ينفع الأمة، ولتتوالى بعدها الجراح على قلبه لما يراه من انحراف المسيرة المحمدية، وما دخل على الدين من تحريف واجتهادات فردية، وهذا ما يوضحه قوله: "فمُنِيَ الناسُ لعَمْرُ اللَّه بِخَبْطٍ وشِماسٍ وتلوُّنٍ واعتراضٍ" .
ولم تنتهي محنة الإمام باستلامه الخلافة؛ بل العكس هجمت عليه الفتن من الجهات كلها وكما قال (عليه السلام) :
" فلمَا نهضتُ بالأَمرِ نكثتْ طائِفةٌ ومرَقَتْ أُخرى وقسطَ آخَرون" .
فما يكاد (عليه السلام) يخمد فتنة إلا وتشتعل أخرى، فتن أهلكت الحرث والنسل، وقُتل فيها الآلاف، أولها فتنة الجمل وآخرها فتنة الخوارج، مرورا بفتنة الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان والتي كانت أشدّ الفتن، وأصعبها لما تميّز به معاوية من دهاء ومكر وطمع بالخلافة لا يردعه دين، ولا يثنيه خوف من الله من أن يفعل الجرائم والموبقات في سبيل الوصول إليها .
لقد أعلن معاوية تمرّده على الخلافة الشرعية المنتخبة من عموم الأمة، وما أن وصل إليه "قميص عثمان" الملطّخ بدمه حتى صار يتّخذه ذريعة لإثارة الفتنة والشغب على حكومة الإمام (عليه السلام ).
تقول الروايات إن رسول معاوية قال للإمام علي:
"تركتُ ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق" فأجابه الإمام (عليه السلام):" أمنّي يطلبون دم عثمان، اللهم إني ابرأ إليك من دم عثمان".
واستمر معاوية يستخدم قميص عثمان كوسيلة يؤجج بها مشاعر الشاميين، ويزيد حقدهم وغضبهم على الإمام مع إنه (عليه السلام)، بريء من دم عثمان وتهمة قتله التي ألصقها به معاوية ليبرر بها تمرّده، وكان كلما شعر من أهل الشام بفتور، وهدأت مشاعرهم تجاه قضية عثمان؛ نصحه مستشاره الداهية الماكر عمرو بن العاص بتعليق القميص مرة أخرى ليبعث جمر الفتنة من تحت الرماد البارد، ويحيي الأحقاد في القلوب!
ولم يكتفِ معاوية بحرب صفين التي استنزفت طاقات الأمة ومواردها البشرية والمادية، وشغلت الإمام عن بناء الدولة، وازدهارها، بل كان يلهب أرجاء البلاد الإسلامية بالغارات، ويرسل عصاباته المجرمة، لتعيث الفساد وتنشر الخوف في القرى الآمنة، وتزعزع أمن المواطنين الأبرياء العزّل بما تقوم به من أعمال قبيحة يندى لها جبين الإنسانية!
فهل ينكر تأريخ معاوية الأسود غارة قائده بسر ابن ارطأة على المدينة ومكة ثم اليمن، وماقام به من جرائم لترويع الناس، فهو لم يكتف بإهانة المسلمين وشتمهم خصوصا أهل الحرمين الشريفين، بل أوقع فيهم أعمال القتل والسلب والنهب، ولم يسلم حتى الأطفال من أعماله الوحشية!
هذه الأعمال الإجرامية مع خذلان الأمة وتقاعسها عن نصرة الحق، والتصدّي للباطل كانت تؤذي الإمام (عليه السلام)، وتزيد من جروحه التي لا يتوقف نزفها، حتى صار يردد: "ما يمنع أشقاكم أن يخضّب هذه من هذه".
لقد كان (عليه السلام) ينتظر جرحه الخاتِم الذي ينهي رحلة جهاده وصبره ومعاناته مع أمة لم تعرف قدره، وحرَمتْه من منصبه الإلهي الذي لو استلمه كما أرادت له السماء لعاش الناس رغد العيش، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولعرفوا طعم العدل الذي لا يتحقق إلا على يد نبي أو وصي نبي !
لم تتجاوز فترة خلافة الإمام (عليه السلام) الخمس سنوات، تعامل خلالها مع الأحداث العاصفة بطريقة تتسم بالحكمة، والسياسة الرشيدة، والصبر والأناة، مع اقترانها بالتقوى، ورضا الله، وخوف الآخرة، سياسة لا يمكن أن يحققها سواه، رغم الظروف الحرجة والمواقف القاسية والعداء المستحكم بالنفوس والأطماع التي لا حد لها! .
كل هذا وينبري من لا يملك سوى معرفة تاريخية ضحلة، أو معلومات سطحية مليئة بالزيف والمغالطات، ليصرّح بأن عليا لم يعرف كيف يحكم !!
فمتى يكّف هؤلاء الجهلة من تسديد المزيد من الطعنات لعلي أفلا يكفيهم ما حمّلوه له من جروح على مرّ التأريخ؟!
اضافةتعليق
التعليقات