أثير دوماً جدل حول علم الوراثة على الصعد كافة، الاجتماعية والدينية والقانونية، كما كان يخشى من أن يستخدم التطور في هذا المجال بشكل غير صحيح أو غير أخلاقي. في المقابل، يعتبر التشخيص الوراثي ما قبل الولادة والتحري عن الخلل الوراثي الذي يمكن أن يسبب اضطرابات خطرة وأمراضاً، من المجالات التي تلقى كثيراً من التشجيع والدعم حالياً. وأسهم هذا الأمر في مكافحة أمراض كثيرة والحد من معدلات الإصابة بها، فيما لم يكن ذلك ممكناً قبل سنوات مضت.
وعلى رغم ذلك، يخشى من اللجوء إلى علم الجينات لاختيار صفات مرغوبة في الطفل كالجنس والمظهر والذكاء، لذلك، يقتصر الإطار القانوني والطبي والأخلاقي المقبول على الانتقاء الجيني لدواع طبية بهدف تجنب أي خلل جيني قد يؤدي إلى ولادة طفل يعاني أمراضاً خطرة، فبدلاً من أن يعيش الطفل وأهله معاناة يومية مستمرة، يشجع الأطباء على اللجوء إلى الفحص الجيني قبل الإنجاب لتجنب هذا الخطر قبل وقوعه وقبل أن يفوت الأوان.
تطور كبير في علم الوراثة
وإذا كان اختيار صفات الأجنة والتعديل الجيني من المسائل المثيرة للجدل من بداية ظهورها إلى اليوم، يوضع التشخيص الوراثي ما قبل الحمل في خانة أخرى بما أنه يمكن الاستناد إليه بهدف الوقاية من أمراض عديدة، ومنها ما لا يتوافر أي علاج لها حتى اللحظة أو لها علاجات مكلفة للغاية. فما دامت الدوافع طبية بحتة والهدف تجنب الإصابة بأمراض، يعتبر اللجوء إلى تقنية التشخيص الوراثي ما قبل الحمل مقبولاً قانوناً واجتماعياً وطبياً، ولا مشكلة فيه.
وبحسب الطبيب الاختصاصي في الطب الجيني أندره مغربني "تتطور الأبحاث في علم الوراثة من عقود، ومن الممكن البحث عن الجينات المسؤولة عن الإصابة بأمراض معينة لتحديد أسبابها وتحسين سبل تشخيصها، لكن كان التحري في الطب الجيني يتطلب وقتاً طويلاً قد يمتد بين ستة أشهر وسنة. ومع التطور الهائل الحاصل في هذا المجال، أصبح من الممكن التوصل إلى نتيجة بسرعة كبرى، وسهولة، وبكلفة أقل.
وانطلاقاً من ذلك بات من الممكن البحث عن مجموعة من الجينات في الوقت نفسه. على سبيل المثال، من الممكن البحث عن سبب نقص النمو لدى طفل بالبحث عن مجموعة من 350 جينة يمكن أن تكون مسؤولة عن ذلك، وبكلفة أقل من تلك المطلوبة للبحث في الجينات بصورة منفصلة، كما أصبحت النتيجة تظهر بسرعة كبرى خلال ما لا يزيد على ثلاثة أسابيع".
ويسمح هذا التطور الكبير الحاصل في مجال علم الوراثة بتشخيص أمراض عديدة، وتحديد العلاجات المناسبة لها، وسبل المتابعة للحالة، وعلى سبيل الوقاية، يمكن إرشاد الأهل في حال الرغبة بالإنجاب مجدداً، في حال ولادة طفل أول مصاب بمرض جيني ما "ويخفف تشخيص الأمراض وتحديد طبيعتها إلى حد كبير من حدة التوتر الذي يعانيه الأهل عندما يجدون أنفسهم عاجزين عن فهم طبيعة المشكلة التي يعانيها طفلهم وأسبابها. فتشخيص الحالة يحد من هذه المعاناة التي كانت تستمر سنوات طويلة في السابق من دون أن يكون من الممكن تفسير طبيعة أمراض معينة في غاية الخطورة، وتسبب أعراضاً صعبة تؤثر إلى حد كبير على حياة الأطفال وأهلهم".
ويعتبر الفحص الجيني مكلفاً طبعاً حتى اللحظة، وإن كانت كلفته قد خفت مع التطور الحاصل في هذا المجال، ومما لا شك فيه أن الأطباء ينصحون باللجوء إلى الفحص قبل الإنجاب، لكن قد لا يتمكن جميع الأشخاص من تأمين هذه الكلف، علماً أن الفحص الجيني يجري تلقائياً قبل الإنجاب في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية حيث تتم دراسة الخريطة الجينية، وخصوصاً جينات معينة يمكن أن تسبب أمراضاً هي الأكثر شيوعاً في البلاد، مما يساعد على تجنب اللجوء إلى عدد كبير من الفحوص بشكل غير مجد ويخفف من الكلفة الصحية والاستشفائية، ويساعد على تشخيص أسرع، وبالنظر إلى الأمراض الخطرة التي يمكن تجنبها، لا تعتبر الكلفة مهمة لأن كلف العلاجات المطلوبة لبعض من هذه الأمراض خيالية، وقلائل قادرون على تحملها.
أمراض أكثر شيوعاً في المنطقة
في دراسة أجراها مغربني على الجينات المسببة للأمراض الأكثر شيوعاً في لبنان والشرق الأوسط، تبين أن "التلاسيميا" من الأمراض الأكثر شيوعاً في المنطقة، كما توصل إلى تحديد الجينات المسؤولة عن نحو 370 مرضاً في لبنان والمنطقة، وانطلاقاً من ذلك، من الممكن توجيه الزوجين وإرشادهما حول مستوى الخطر بإنجاب طفل مصاب بالنظر إلى الفحص الجيني لهما، بغض النظر عما إذا كان الزوجان من الأقارب أو لا. وقد تبين في الدراسة أيضاً أن الأمراض النادرة الموجودة في لبنان كثيرة بسبب ارتفاع معدلات زواج القربى، وبما أن زواج الأقارب من العوامل التي تزيد الخطر، كان من الممكن الحد من خطر إنجاب أطفال مصابين بأمراض جينية إلى حد كبير باللجوء إلى الفحص الجيني. وفي لبنان، تصل نسبة زواج القربى إلى 24 في المئة ما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض الوراثية عامة، كما ترتفع هذه النسبة في الدول العربية أيضاً، مما دفع دولة الإمارات إلى فرض اللجوء إلى الفحص لدراسة الخريطة الجينية للحد من معدلات الإصابة بالأمراض، فتغطية كلف الفحص تعتبر قليلة مقارنة مع كل كلف العلاجات والفحوص والمتابعة الطبية التي يمكن أن تكون مطلوبة في حال ولادة طفل مريض.
وسمح وجود الفحص الجيني بتحسين سبل التشخيص، إضافة إلى أنه سمح بالوقاية من أمراض وراثية خطرة يمكن أن تسبب معاناة للأهل والأطفال طوال الحياة، فبوجوده بات من الممكن تأكيد التشخيص بدلاً من القيام بتكهنات خلال أشهر أو ربما سنوات حول المرض الذي يمكن أن يكون الطفل مصاباً به ويسبب له كل هذه المعاناة.
وأشار الطبيب مغربني إلى أنه طبياً وأخلاقياً، بالاستناد إلى توصيات كلية "الطب الجيني" الأميركية، وعند إجراء الخريطة الجينية للبحث عن جينة معينة، فإذا تبين أن الشخص المعني يحمل جينة معينة أخرى أيضاً قد تسبب له مرضاً في يوم من الأيام ولا علاج له كداء "ألزهايمر" أو "باركنسون"، لا تعطى له هذه النتيجة طالما أنه لا علاج لها ولا سبيل للوقاية من المرض لأنه سيعيش معاناة نفسية من دون جدوى. في المقابل، إذا تبين أنه يحمل جينة أخرى قد تسبب له مرضاً قابلاً للمعالجة، فيمكن توجيهه ليتمكن من اتخاذ الإجراءات الوقائية لتجنب الإصابة أو الحد من الخطر منذ الطفولة.
وعلى أثر صدور نتيجة الفحص، تتوضح الأمور للأهل، وقد يكون هناك خطر بإنجاب طفل مصاب بمرض جيني، وأحياناً تتوافر علاجات لهذه الأمراض الجينية، وعندها، من الممكن البدء بالمتابعة الطبية الجدية في مرحلة مبكرة على أثر التشخيص، حتى إن ثمة أمراضاً يمكن معالجتها عندما يكون جنيناً في رحم الأم، كما يمكن ألا يكون هناك أي علاج للمرض، وعندها قد يتخذ القرار باللجوء إلى تقنية الزرع في عملية طفل الأنبوب لإنجاب أطفال أصحاء في إحدى التقنيات التي تجرى في مراكز متخصصة، وتدرس فيها الجينة المصابة ويجري زرع تلك الصحيحة لدواع طبية فقط.
في تفاصيل عملية طفل الأنبوب
صحيح أنه ينصح بإجراء الفحص الجيني قبل الإنجاب، لكن غالباً ما يلجأ إليه الزوجان بعد إنجاب طفل مصاب، هذا ما تؤكده الطبيبة الاختصاصية في الجراحة النسائية والتوليد وفي معالجة العقم جيسيكا عازوري، وبصورة عامة، يجب معرفة المرض الجيني الموجود في العائلة مسبقاً قبل اللجوء إلى هذا الفحص، "وإذا كان المرض معروفاً، يجرى الفحص للأم والأب بهدف اكتشاف المشكلة الجينية، وغالباً ما يتم اللجوء إلى هذا الفحص في حال وجود أمراض جينية في العائلة وخصوصاً في حالات زواج الأقارب. لكن في لبنان، لا يجرى هذا الفحص مسبقاً قبل الزواج إلا للتلاسيميا لاعتباره المرض الجيني الوحيد الموجود في البلاد بمعدلات مرتفعة، فيما باقي الأمراض تعتبر نادرة، وبصورة عامة، يتم اللجوء إلى هذه الفحوصات في حال إصابة طفل تجنباً لإصابة الطفل الثاني بالمرض نفسه"، وتوضح عازوري أن خطر إصابة الطفل بالمرض يزيد عندما يحمله كلا الزوجين. لذلك، يمكن أن يجرى التشخيص الوراثي قبل الحمل بهدف اللجوء إلى عملية طفل الأنبوب، فتتكون الأجنة في المختبر ويحدد الجينة المصابة لاستبعادها، ويمكن إبقاء الجينة التي تحمل المرض، لكن تبقى الفضلى الخالية من أي خلل".
وبصورة عامة، تجرى عملية طفل الأنبوب في أربع خطوات بدءاً من تقوية المبيض لدى المرأة، تليها عملية سحب البويضات، ثم تلقيح البويضات، وأخيراً الخطوة الرابعة والأخيرة حيث تعاد فيها الأجنة. لكن في حال التشخيص الوراثي قبل الحمل، هناك خطوتان إضافيتان تقضيان بأخذ الخزعة وإجراء الفحص الجيني، علماً أن الخزعة ترسل غالباً إلى خارج لبنان للحصول على النتيجة وهي من الفحوص المكلفة التي تضاف إلى كلف عملية طفل الأنبوب، إذ يجرى الفحص الجيني في مراحل عدة في عملية معقدة "هناك أمراض لا يعيش الطفل فيها ومنها ما يفقد فيها الطفل وظائف أساسية في جسمه، بحيث لا يكون أمام الأهل أي اختيار إلا اللجوء إلى التشخيص الوراثي ما قبل الحمل لحماية الأطفال الباقين الذين يمكن إنجابهم". حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات