عندما تجتاح الأعاصير أرض قوم، تتفاوت ردة الفعل بين أبنائها، فمنهم من يهرب بجلده، ومنهم من يضع طوق نجاة أو سترة واقية له وحده، ومنهم من يلتهمه الموج الهادر لأنه استسلم ولم يُحرّك ساكناً، ومنهم من يبني سدّاً منيعاً أو ساتراً قويّاً يحمي المدينة كلّها من شجر وحجر ومدر وبشر.
وهكذا مع أي موجة فتن تهاجم أي أمّة أو عقيدة أو فكر أو دين، هناك من يرتعد خائفا ويفر بدون مقاومة، ومنهم من ينجي نفسه ويقول: أنا والطوفان ورائي، ومنهم من يبتلعه التيار الجارف، وطوبى لمن وعى الخطر وفكّر بغيره _في الحاضر والمستقبل_ وصنع ساتراً ليحمي الجميع من كل سوء فيأمن كل من التجأ به.
وهذا التسونامي يهاجم البشرية في كل زمن، وكذلك حدث في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، وأثناء تلك الانتقالة شهد المسلمون أمواجا شتّى من فتن وبدع وانحرافات، وكان الامام الصادق عليه السلام المعاصر لتلك الفترة الصعبة وعاش المخاض الأليم الذي شهدته الأمة.
مع هاتين الحكومتين الجائرتين خاف كل صاحب غيرة على دينه وتطلع واحتمى بمنقذ شريعة خاتم الأنبياء من الحركات الخطيرة التي ظهرت في تلك الأيام.
في خضم كل تلك الفتن والاضطرابات، ماذا فعل الامام صلوات الله عليه، وكيف واجه تلك الأمواج العاتية التي هددت دين جده بالاندثار أو التشويه؟
بلاشك لقد فكر الامام ضمن اطار جماعي ولم ينظر لنفسه أو أتباعه كدائرة فردية بحتة، لذلك بادر ببناء سواتر علمية عديدة ظهرت في عدّة أشكال منها: الفقهي والتفسيري والعقائدي واللغوي والكيميائي والطبي، وقد بقيت هذه السواتر حتى يومنا هذا، إذن كيف تصرف الامام، وماذا كانت أدواته ومناهجه؟
لقد بنى الامام الصادق مدرسة بل مدارس، باتت سدّاً أمام كل ضلالة زخرفت بآية أو فلسفة، لقد رفع الامام بيديه الشريفتين أركان تلك المدارس وشيّدها بعزيمة لا تعرف الوهن، أمأ أدواته فكانوا أصحابه، لقد ربّى الامام المئات من طلبة العلم والذين أصبح الكثير منهم أعلاما في كل العلوم والمعارف.
لقد كان الامام الحامي الأول للبيت الهاشمي والمنبر النبوي، المنبر الذي اغتصبه الظلمة وجلسوا عليه ولبسوا عباءة الدين وهو منهم براء، تحت ذلك المنبر المزيّف سمع الامام روحي فداه شتم جدّه أمير المؤمنين لمدة 19 عاماً، ضُيّق على الامام وطورد أبنائه وعذّب وسجن ونكل الظلمة بأتباعه، ورغم كل ذلك لم يجلس الامام ساكناً، بل وجد طريقاً لصنع وإيصال جرعات من الدواء الناجع لجسم الأمة الذي أوشك على الاحتضار.
وبالتأكيد لم ولن يضمحل دين محمد بفضل حماته الموكلين من رب الأكوان من وصي المصطفى وابنته الصديقة؛ المدافعين الأوائل عن تلك الشجرة مروراً بمؤسس المدرسة الجعفرية وختاماً بمنقذ البشرية عجل الله فرجه الشريف.
وإن كان هدف الامام الأول من بناء تلك السواتر هو الدفاع عن دين جده، ونشر التعاليم الاسلامية الصحية، لكن نظرته كانت أبعد من ذلك وهي الحفاظ على هذا الدين ووصوله سليما معافى إلى كل الأجيال التي تأتي لاحقا.
أما مناهج مدرسة أبي عبد الله فقد تعددت ونذكر منها أهمها:
التفكير المنفتح والحوار الحضاري الحر:
عارض الامام الحركات السياسية والخلافة الظالمة وحاربهم بسلاح العلم والايمان والأخلاق، ومع أبناء المجتمع انفتح على كل العقول وحاورهم وأفحمهم بحكمة وفيرة وفكر عميق وثقافة عالية.
لقد تخرج من مدرسته علماء كثر، انحرف بعضهم عن خط وفكر الامام _وبلاشك الامام كان يعلم بذلك_ لكنه لم يغلق الباب أبدا في وجوههم، لإتمام الحجة عليهم أولاً، ولعلمه بترسب بعض النور إليهم، ويبقى أن بعض الشر أهون.
أحبه الجميع، واعجبوا بشخصيته، حتى المعارضين له والمختلفين مع آرائه، يقول عبد الكريم بن أبي العوجاء _أحد الزنادقة في عصره_: "ماهذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ويتروح فهو هذا".
ويقول أنس بن مالك _أحد علماء المذاهب الأربعة_: مارأيت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد.
صناعة القائد:
لقد كان يحضر في مجلسه 4 آلاف من العلماء، كانوا يتوافدون من البصرة والكوفة والحجاز، وكانت هذه الفترة في أواخر العهد الأموي، واستثمر الامام ذلك الوضع، فربّى وعلّم أصحابه لا ليكونوا علماء فقط بل قادة، فأصبح كل فرد منهم حلقة في سلسلة تبدأ وتنتهي باسم جعفر بن محمد.
ولم يصل أصحاب الامام إلى هذه الرتبة إلا بعد معاناة وصبر وايمان ومنهم من اعتقل وطورد وقتل.
توزيع الاختصاصات:
يروى أن رجلا ورد من الشام وأراد أن يسأل الامام في عدة مسائل متفرعة، فأمر الامام أصحابه بأن يجيبوه ووزعهم كالتالي:
حمران بن أعين: في القرآن.
ابان بن تغلب: العربية.
مؤمن الطاق: علم الكلام (العقائد).
زرارة بن أعين: الفقه.
هشام بن سالم: التوحيد.
هشام بن الحكم: الامامة.
أعجب الشامي بهؤلاء الرجال واجاباتهم، وطلب من الامام أن يعلّمه ويكون من شيعته، فقال أبو عبد الله لهشام: "علمه فإني أحب أن يكون تلميذا لك"*1.
وتخرج من مدرسته جابر بن حيان واختص في علم الكيمياء، كتب جابر مئات الرسائل، وقد طبعت 500 رسالة منها في ألمانيا قبل أكثر من 300 سنة، وهي موجود في مكتبة الدولة ب برلين وباريس *2.
لقد شكلوا بألوان تخصصاتهم لوحة فسيفسائية أثرت البشرية وأغنتها بعلومهم المتفرعة.
رفض تسييس الدين:
لم يؤيد الامام حركة أبو مسلم الخراساني الذي أراد الاطاحة بالحكم الأموي لعلم الامام بعاقبة هذه الثورة وعدم اخلاص رئيسها ومعرفة غاياته ومصالحه الحقيقية، إلا أنه لم يجز أبدا التعامل مع الخلافة الأموية والعباسية، ورفض التعاون معهم _رغم اتخاذه التقية في بعض مواقفه بما تقتضيه المصلحة_ يقول عليه السلام:
"الفقهاء أمناء الرسل فإذا رأيتم فقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم".
فلا مجاملة ولا مداهنة في الحق. ومع ذلك قد أبّن الامام زيد بن علي ولعن قاتله بعد الثورة التي قامت في عهده، وقد ضويق نتيجة ذلك أكثر من قبل هشام بن عبد الملك.
وبذلك استقلت مدرسته ولم ترتبط بالحكومة، ولم يفلح جلاوزتها في عقد اتفاقيات معه واخضاعه لهم.
وبعد أن فشلت السلطة في اضعاف دور الامام وحركته العلمية الاصلاحية، دسّ أبو جعفر المنصور السم إليه.
وغادر الامام هذه الدنيا الغادرة، وترك في قلوب شيعته لوعة لا تنطفئ، ولا تزال سواتر الامام العلمية خالدة مابقي الدهر، وتتعدد الأمواج وتهاجمنا بأشكال عصرية جديدة، لكن تبقى مدرسة وأدوات ومناهج الامام ملائمة لمجابهة كل شبهة وضلالة وبدعة.
اضافةتعليق
التعليقات