يعتبر دعم المشاهير هذه الحملات الصحية حيوياً، إذ يمتلكون تأثيراً كبيراً في المجتمع وقدرتهم على تسليط الضوء على قضايا صحية مهمة بطريقة تصل إلى جمهور واسع. وتلعب مواقفهم وقراراتهم الشخصية في هذا الصدد دوراً كبيراً في كسر الحواجز المحيطة بالنقاشات حول الأمراض، بطريقة تسهم في إزالة الخوف والوصمة الاجتماعية المرتبطة بأمراض مثل سرطان الثدي.
في أكتوبر (تشرين الأول)، حين تغمر الأرض ألوان الخريف الدافئة من الأصفر والبرتقالي إلى القرميدي، تتجول راغدة وسط هذه اللوحة الطبيعية المتغيرة. تشعر بنسيم الخريف البارد على وجهها، وتتنفس بعمق هواءً مليئاً برائحة الأرض الرطبة. وبينما تتابع سيرها بين الأشجار المتساقطة أوراقها، تقع عيناها على المشبك الوردي اللامع المثبت بعناية على سترتها. هذا اللون الوردي، الذي يبدو متناقضاً تماماً مع ألوان الطبيعة حولها، يذكّرها برحلة مليئة بالتحديات، معركة استمرت لعامين ضد سرطان الثدي.
لقد نجحت راغدة في تجاوز الألم والخوف، وكلما نظرت إلى الشريط الصغير، تستحضر في ذاكرتها مشاعر القوة والتضامن التي استمدتها من دعم محيطها.
ليس اللون الوردي مجرد رمز للأمل، بل هو علامة على صراع أعمق تواجهه آلاف النساء حول العالم، إذ يصبح هذا الشهر فرصة للتوعية والدعم وتأكيد أهمية التشخيص المبكر. وبينما تتعدد الطرق التي يسعى النشطاء من خلالها إلى التوعية بسرطان الثدي ودعم المصابات به، نجد أن للفنون والثقافة دوراً بالغ التأثير في هذه القضية. وفي مقالنا اليوم، سنركز على الوسائل التي تسهم من خلالها الفنون والثقافة في تعزيز الوعي بسرطان الثدي، وكيف تتحول الأعمال الإبداعية إلى جسور تربط المجتمعات وتدعم المرضى وأسرهم.
درهم وقاية
يمكن أن تكون الفنون والثقافة وسيلتين فعالتين لنقل رسائل التوعية الصحية، بما في ذلك سرطان الثدي، من خلال جذب الانتباه إلى أهمية الكشف المبكر الذي يعد أمراً بالغ الأهمية في زيادة فرص الشفاء من المرض، إذ تزيد نسبة التعافي إذا تم تشخيص الورم في مراحله الأولى.
يتناول عديد من الفنانين والمعارض هذا الموضوع بطرق إبداعية تعزز الوعي. على سبيل المثال، معرض "أثداء" Breasts الذي يستضيفه حالياً قصر فرانتشيتّي في البندقية بإيطاليا ويستمر لغاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، يسلط الضوء على موضوعات متعلقة بسرطان الثدي من خلال مجموعة متنوعة من الأعمال الفنية التي تشمل الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي. يشارك فيه فنانون مثل شارلوت كولبيرت التي عرضت منحوتة تعبر عن تجربة استئصال الثدي. يهدف المعرض إلى إثارة النقاش حول صورة الجسد وتمكين النساء والتوعية بأهمية الكشف المبكر.
وفي مجال النحت أيضاً، تتناول الفنانة برون نوري، وهي ناجية من سرطان الثدي، تجربتها من خلال عمل نحتي يدمج الزجاج الفينيسي والبرونز. لا تسهم مثل هذه الأعمال فقط في رفع مستوى الوعي، بل تشجع على إجراء الفحوصات الوقائية والفحص الذاتي.
أكتوبر الوردي
كذلك يمكن للتصوير الفوتوغرافي أن يسهم في التوعية، إذ يتم عرض صور لنساء ناجيات أو صور تسلط الضوء على أهمية الفحص الذاتي في معارض عدة. مثال على ذلك "مشروع الندبة" The SCAR Project الذي أنشأه المصور الفوتوغرافي الأميركي ديفيد جاي. يعرض هذا المشروع سلسلة صور مؤثرة لنساء ناجيات من سرطان الثدي، وهن يظهرن ندوب ما بعد الجراحة بطريقة تعكس شجاعتهن وتحديهن المرض.
تُعد تجربة النجمة أنجلينا جولي مثالاً بارزاً على مدى تأثير المشاهير في توعية الرأي العام حول القضايا الصحية الحساسة. في عام 2013 أعلنت أنجلينا أنها اتخذت قراراً جريئاً باستئصال ثدييها بشكل وقائي بعد أن اكتشفت أنها تحمل طفرة جينية في الجين BRCA1، مما يزيد من احتمال إصابتها بسرطان الثدي بنسبة عالية. أحدث إعلانها ضجة إعلامية كبيرة وأسهم بصورة مباشرة في زيادة الوعي حول أهمية الفحص الجيني، إذ اندفعت كثيرات للتحقق من حالاتهن الجينية، وزاد النقاش حول أهمية الكشف المبكر كوسيلة للوقاية من السرطان. بفضل شهرتها العالمية وجرأتها في مشاركة قصتها، لفتت جولي الانتباه إلى هذا الموضوع الحساس وشجعت على النقاش المفتوح حول خيارات الوقاية المتاحة للنساء.
من جهة أخرى، كان لعدد من المشاهير في العالم العربي دور في زيادة الوعي حول سرطان الثدي. فعلى سبيل المثال، كشفت الممثلة السورية كندة علوش في وقت قريب عن تجربتها الشخصية مع سرطان الثدي، مما أثار تعاطفاً كبيراً وأسهم في تسليط الضوء على أهمية الفحص الدوري والكشف المبكر، بخاصة أنها علمت بإصابتها بالمرض في وقت واحد مع والدتها التي شاركتها رحلة العلاج بحلوها ومرها.
كانت تجربة علوش نموذجاً معبراً عن القوة والصمود في مواجهة المرض، وأكدت من خلالها أهمية الشجاعة في مواجهة السرطان، مشددة على ضرورة عدم تجاهل النساء الفحص الدوري والفحص الذاتي. اختارت علوش الحديث علناً ولم تخشَ الاتهام بـ"المتاجرة بمرضها" مثلما صرحت في السابق الإعلامية المصرية لميس الحديدي بعد تجاوزها هذه التجربة الصعبة أو الفنانة اللبنانية أليسا التي اختارت الألم بصمت.
يعتبر دعم المشاهير هذه الحملات الصحية حيوياً، إذ يمتلكون تأثيراً كبيراً في المجتمع وقدرتهم على تسليط الضوء على قضايا صحية مهمة بطريقة تصل إلى جمهور واسع. وتلعب مواقفهم وقراراتهم الشخصية في هذا الصدد دوراً كبيراً في كسر الحواجز المحيطة بالنقاشات حول الأمراض، بطريقة تسهم في إزالة الخوف والوصمة الاجتماعية المرتبطة بأمراض مثل سرطان الثدي.
هناك متسع من الوقت
تُعتبر الفنون الأدبية والموسيقية والحرفية وسائل فعالة في تعزيز الوعي بسرطان الثدي. في مجال الشعر نجد أن قصائد الشاعرة الأميركية سوزان ميلر تعبر عن تجربتها مع المرض، حين تتناول مشاعر القلق والأمل في مواجهة التحديات الصحية كما في قصيدتها "أجنحة الأمل".
أما في مجال القصة القصيرة فهناك مجموعة قصص قصيرة شاركت فيها ثلة من الكاتبات مثل كيت موس وسيسيليا آهرن، تتناول قصصاً حقيقية ملهمة لناجيات من المرض ويعود ريع مبيعاتها لدعم جمعية ’كانسر كير‘ الخيرية.
وفي المسرح، أنجز المسرح البحريني قبل سنوات عدة مسرحية بعنوان "درب المصل" تتناول هذه التجربة القاسية والمؤثرة. وفي بريطانيا تُعرض حالياً مسرحية بعنوان "غير مرئية غير مسموعة" Unseen Unheard التي تستعرض قصص النساء السوداوات اللواتي عانين سرطان الثدي وتجاربهن الشخصية وتحدياتهن في مواجهة هذا المرض.
في مجال الفنون التمثيلية كان المسلسل السوري "حائرات" الذي عُرض في عام 2013 رائداً في التطرق إلى الموضوع، حين لعبت فيه الممثلة السورية سوزان سكاف، دور ناجية من السرطان، وحلقت شعر رأسها من أجل الدور. قدم هذا العمل دفعة قوية لدعم المصابات وإزالة الوصمة المرتبطة بالأعراض الجسدية للمرض مثل تساقط الشعر.
يُعتبر فيلم "أحكام الحب" Terms of Endearment عملاً مميزاً في تناوله موضوع مرض السرطان، إذ يقدم تجربة إنسانية غنية ومعقدة، تتجاوز الصور النمطية المتعلقة بالمرض. يبرز العمل التحديات التي تواجهها الشخصيتان الرئيستان، إذ تلعب شيرلي ماكلين دور الأم إيما، وديبورا ويينغ دور ابنتها أبيلين. لا يصور الفيلم الشخصيتين كضحيتين للمرض، بل كبطلتين محاربتين تواجهان المحنة بشجاعة ومرح. يتناول الفيلم العلاقة العاطفية بين الأم وابنتها، ويُظهر كيف أن الروح القوية والتمسك بالأمل يمكن أن يساعدا في التغلب على الصعوبات.
في مجال الفنون الحرفية، تقيم جمعية مكافحة السرطان في مصر سنوياً ورش عمل لصنع منتجات يدوية يعود ريعها لدعم المصابات، وفي المملكة المتحدة تقام مبادرة "أثداء منسوجة" Knitted Knockers لحياكة أثداء صوفية تُوزع مجاناً على الناجيات، مما يسهم في دعمهن نفسياً وتحسين تقبلهن أجسادهن.
وفي عصرنا الحالي، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت دوراً حيوياً في هذا المجال. أصبحت منصات مثل "فيسبوك" و"إنستغرام" و"إكس" أدوات فعالة لنشر المعلومات والتجارب الشخصية، مما يسمح للنساء بمشاركة قصصهن وتجاربهن مع المرض. تظهر الحملة العالمية "اصبغ العالم بالوردي (#PaintItPink) كيف يمكن لهذه المنصات أن توحد الأصوات وتجمع المجتمعات حول قضية واحدة. كما تسهم المنصات في نشر معلومات دقيقة حول الفحص الذاتي والكشف المبكر، مساعدة في تقليل الوصمة المحيطة بالمرض، ومشجعة النساء على اتخاذ خطوات إيجابية نحو صحتهن. إضافة إلى ذلك، يعد الإنترنت مصدراً غنياً للمعلومات والموارد، إذ يمكن للمرضى البحث عن الدعم والمساعدة من مجتمعات متعاطفة.
بالطبع لا يمكننا إنكار أن الفنون والثقافة تلعبان دوراً حيوياً في تعزيز الوعي بسرطان الثدي، لكن لا يمكن الاستغناء عن دورات التوعية والحملات التي تدعم الفحص المبكر، وأن تمويل هذه العمليات وإتاحتها للجميع أمران ضروريان لضمان قدرة كل امرأة على الحصول على الرعاية الصحية التي تحتاج إليها.
كذلك، يجب أن نتذكر أن هناك نساء في مناطق من العالم يعانين ظروفاً أشد قسوة هذا العام، بسبب النزاعات والأزمات، كما في غزة واليمن والسودان وسوريا وأفغانستان. إن معاناتهن تتجاوز بكثير تحديات المرض، مما يستدعي من الجميع مد يد العون والتضامن.
لكن على رغم كل ذلك سيظل اللون الوردي يرمز إلى الأمل، متألقاً وسط ألوان الخريف، يذكرنا بأن النضال من أجل الحياة والصحة لا يتوقف. حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات