يلقي المقال الضوء على حملة شركة "إنديد" التي تصنف المراحل العمرية في بيئة العمل بصورة قاسية، مما يبرز التحيز ضد من هم فوق سن الـ55. ويؤكد الكاتب أن العمر مجرد رقم وأن الخبرة والمعرفة التي يمتلكها كبار السن يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة.
فتش عن مصطلح "تراجع" في معجم المترادفات وستجد مصطلحات بديلة كثيرة، من بينها ركود وإخفاق وضعف وتحجم، والأهم من هذه كلها "انزلاق كارثي". إذا كنت مولوداً قبل عام 1969 وما زلت ساذجاً إلى حد أنك حتى الآن تشغل إحدى الوظائف في مؤسسة ما فحياتك المهنية الآن في انزلاق كارثي.
أقله تكون هذه حال مسيرتك المهنية إذا أخذت برأي شركة التوظيف الأولى في العالم "إنديد" Indeed. فقبل بضعة أيام أطلقت الأخيرة حملة إعلانية جديدة على الموقع الإلكتروني "لينكد إن" LinkedIn، تشتمل على دليل "مفيد" للغاية وفق توصيفها، يخبرك في أية مرحلة مهنية أنت استناداً إلى عمرك.
وبناء عليه، تنتقل من مرحلة "الاستكشاف" (الفئة العمرية بين 21 و25 سنة) إلى "التأسيس" (الفئة العمرية بين 25 و35 سنة)، ثم "منتصف الحياة المهنية" (الفئة العمرية بين 35 و45 سنة) و"المسيرة المهنية المتأخرة" (الفئة العمرية بين 45 و55 سنة)، ومن هذه النقطة تبدأ مسيرتك بالتدهور نحو القعر. مرد ذلك، وفق الشركة التي يبلغ عمر مديرها التنفيذي 56 عاماً، أن حال الأشخاص ضمن الفئة العمرية بين 55 و65 سنة تأخذ في التراجع. ومعاذ الله حتى إن تفكر في العمل بعد سن الـ65 لأنك بحسب "إنديد" غير مصنف ضمن أي من المراحل. ويبدو أنك وصلت إلى مرحلة لم تعد تجدي فيها نفعاً، ربما؟
وبسرعة بالغة حذفت الشركة هذا الإعلان بعد موجة استنكار عارم وانتقادات ضدها من "مسنين" ما زالوا قادرين على تصفح وكتابة التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي. ولكننا ببساطة إزاء مثال آخر عن الوصم القاسي الذي يلحق بكبار السن في ما يتعلق بالوظيفة ومنصبهم في مكان العمل.
من جهتي، أقله رسمياً أوشك أن أدخل مرحلة تراجعي الطويل المحتوم وعديم الرحمة نحو ظلمة التوظيف لدى لائحة "إنديد". وأجدني لا آلو جهداً في شركة أنشأتها بنفسي وتتوزع نشاطاتها في أربع قارات فيما تتولى أعمالها مجموعة صغيرة من العاملين المستقلين، وأدفع ضريبة دخل أكثر مما فعلت في أي وقت مضى، وأتعاون مع أنماط عدة من الشركات، ونعم، مع رؤساء تنفيذيين أكبر سناً، وأنا مع ذلك لست ذا أهمية وفق تصنيفات الشركة.
على ما يبدو يمثل عمري المؤشر الحقيقي على هويتي وليس النجاح الذي أحققه في منتصف حياتي المهنية.
الأسبوع الماضي، كنت في اجتماع مع عدد من العاملين في مجال التسويق لمساعدتهم في صناعة قصة عن إعادة إطلاق وشيكة لأحد المنتجات، استناداً إلى باقة مفيدة جداً من بيانات كانوا لفترة من الوقت يعكفون على جمعها. يحمل المنتج اسماً مألوفاً. واحدة من الشرائح الحاسوبية الرئيسة الموجودة على الشاشة في العرض التقديمي وزعت الزبائن المحتملين للمنتج في أربع فئات عمرية مختلفة، وكانت الفئة الأكبر في السن، "المتقاعدون"، مرفقة بصورة لامرأة تتجول في محل سوبرماركت متكئة على أداة تساعدها في المشي (ووكر). كنت الوحيد من بين 12 شخصاً في الغرفة الذي قالها بصراحة وسمى الأمور بأسمائها "إذا كنتم تعتقدون أن الأشخاص الذين بلغوا سن التقاعد يبدون على هذه الشاكلة، فإن إطلاق هذا المنتج سيلقى الفشل". لست واثقاً ما إذا كان سيصار إلى تجديد عقدي عند انتهاء تاريخه بعد الصمت الذي ساد الأجواء عقب كلامي، ولكن وجوه المجتمعين حول الطاولة التي تلونت بالحيرة كانت تأكيداً أن التحيز على أساس العمر في مكان العمل ينمو قطعاً ويزداد انتشاراً في عصر يفترض أن يحتل فيه التنوع رأس جدول الأعمال لدى الجميع.
يتكرر هذا الموقف أمامي دوماً. عندما قررت منذ 11 عاماً مضت أن أتخلى عن العمل كصحافي في دوام كامل كي أنشئ مشروعاً تجارياً يساعد الناس على التواصل بصورة أكثر فاعلية من طريق "ترجمة" البيانات إلى قصص، وحاول أحد زملائي المقربين أن يحملني على التراجع عن قراري هذا قائلاً "غرانت أنت تبلغ من العمر 44 عاماً، ألا تعتقد أن الوقت قد فات قليلاً للبدء من جديد؟ سأقدم لك وظيفة بدلاً من خطوتك هذه".
تمر هذه الكلمات في بالي كل يوم وأفكر فيها فأجدها تحفزني وتدفعني إلى بذل مجهود أكبر. لم يفت الأوان بعد. العمر مجرد رقم ولا يعني شيئاً. إذا كانت الرغبة موجودة، وإذا كانت في متناولك فكرة رائعة، وإذا كنت مستعداً للعمل طوال ساعات كثيرة على مدى أيام الأسبوع، لا يفوت الأوان أبداً. وتعلمت من تجربتي أنني كلما تقدمت في السن كان علي أن أخصص وقتاً أكثر للعمل، وأصبحت أكثر فائدة بالنسبة إلى المؤسسات التي يرغب العاملون فيها في التعلم، ليس من الخوارزميات والروبوتات، بل من أصحاب الخبرة.
ومع ذلك، ما زالت وصمة التمييز على أساس السن موجودة، إذ يرد في تقرير صادر عن المؤسسة الخيرية "مركز شيخوخة أفضل" أنه في عام 2023 واجه نصف الأشخاص الذين تخطوا الـ50 سنة من العمر هذه الصورة من التحيز. وخلال العام الماضي حث وزير الخزانة السابق في بريطانيا جيريمي هانت، علماً أنه يبلغ من العمر 57 عاماً، الذي يعيش "مرحلته من التدهور" كبار السن الذين يلقون الازدراء غالباً لدخولهم مرحلة التقاعد المبكر إذ لا يؤدون أي عمل، إلى "الخروج من ملعب الغولف والعودة إلى العمل" من أجل الحاجة إلى مهارات.
ولكن ليس هذا الكلام صحيحاً تماماً، وغالباً لا تريد الشركات أو لن توظف أبناء هذا الجيل ["كبار السن"]. مثلاً 42 في المئة فقط من المديرين أخبروا "معهد تشارترد للإدارة" في بريطانيا أنهم منفتحون على توظيف الأشخاص الذين تراوح أعمارهم ما بين 50 و64 سنة، مقارنة مع 74 في المئة من المديرين السعداء بتوظيف الأشخاص الذين تراوح أعمارهم ما بين 18 و34 سنة.
وربما يُعزى قرارهم هذا إلى افتراضهم أننا سنكلفهم كثيراً من الأموال، ولكن كثيرين أيضاً يعتقدون وهم مخطئون في ذلك أننا نعجز عن استخدام التكنولوجيا ولا نستطيع أن نتنافس مع أبناء الجيل الرقمي، الذين نشأوا في ظل التكنولوجيا الرقمية وعصر المعلومات. سر بيني وبينك، إنهم على حق. بعض منا يفعل ذلك ببساطة من دون الاستعداد له مسبقاً، وتجدنا ننقر بصورة متزامنة على الأزرار "كنترول–ألت–ديليت" الموجودة على لوحة المفاتيح بغية إعادة تشغيل النظام، ونعقد أصابعنا آملين أن يسير كل شيء على خير ما يرام عندما نواجه موقفاً صعباً وتتأزم الأمور.
ولكن ما يميزنا عن [أبناء الجيل الرقمي] أننا نمزج التكنولوجيا مع الفطرة السليمة والخبرة والمهارات القابلة للتحويل والمعرفة المستمدة من المكوث في صدارة الأجيال اللاحقة لعقود من الزمن. وهكذا تجدنا نستخدم الأدوات ولا نعتمد عليها، ونعمل على تحسين المهارات أثناء مضينا قدماً، ذلك أننا ندرك أكثر من أي شخص آخر ضرورة البقاء على اطلاع بالموضوع، إضافة إلى ذلك نحن لا نأخذ عطلات مرضية يوم الإثنين بعدما أفرطنا في شرب الكحول خلال الليلة الماضية.
وعبر الأجيال ترانا نقدم أداء أفضل في مهامنا من أي فرد آخر. ولما كانت هذه المرة الأولى في تاريخ مكان العمل إذ تجد في المكتب نفسه ما يصل إلى أربعة أجيال مختلفة، يبدو من الطبيعي أن نخرج في موعد غرامي مع أشخاص من خارج فئتنا العمرية، وأن نصبح آباء وأمهات في العقد الخامس من عمرنا، وأن نمارس الرياضة ونتواصل اجتماعياً مع بعضنا بعضاً من دون أن تشغل بالنا تواريخ الميلاد.
وبحلول عام 2025 سيتجاوز عمر واحد من كل ثلاثة موظفين بريطانيين الـ50 سنة. ولا بد أن القلق يعتري الأفراد من أمثال جيريمي هانت، أو ربما لا. ووفق المركز الأميركي "بيو للبحوث" بلغ متوسط عمر القادة الوطنيين خلال مايو (أيار) من العام الحالي 62 سنة، علماً أن ما يربو على ثلثهم في الستينيات من عمرهم. ويبدو أن الساسة هم الاستثناء في نموذج "الانحدار" الذي تتبناه "إنديد".
كمجتمع، نحن نتقدم في السن. يشير "المركز الدولي لدراسات طول العمر" في بريطانيا إلى أنه بحلول عام 2040 سينفق كبار السن 63 بنساً من كل جنيه استرليني يجد طريقه إلى اقتصاد المملكة المتحدة (في ارتفاع على المعدل الحالي البالغ نحو 57 بنساً). لا يذهب كثير منهم للتسوق متكئين على الووكر. وبناء عليه، إذا وظفت الشركات عدداً أكبر من كبار السن فإنها عبر هؤلاء ستجمع معرفة أكبر بعملائها وزبائنها، وستكون قادرة على التنبؤ بسلوكاتهم بصورة أكثر دقة، وستتسم بتعاطف أكبر للتواصل مع المستهلكين الذين ما زالوا يملكون دخلاً ينفقونه. باختصار، ستجني أموالاً أكثر.
شركة "يونيليفر" Unilever بدورها وفهمت هذه الحقيقة أخيراً. وعلى هذا الأساس، وظفت خلال الفترة الأخيرة مسؤولاً عن السن وطول العمر ونماذج التوظيف الجديدة حرصاً منها على أن تجتذب أعمالها أكثر الفئة السكانية الأكبر سناً. أو مثلاً تأمل في الاستراتيجية الفضية للقوى العاملة [شاع هذا المصطلح في عصر يتسم بشيخوخة القوى العاملة إلى جانب النقص الملحوظ في العمالة للتعبير عن الارتقاء بمشهد التوظيف إلى من يبلغون 55 سنة فما فوق] التي تتبعها شركة "بي أند كيو" البريطانية، والتي وزعت على متاجرها الموظفين الأكبر سناً الجديرين بالثقة ويمكن التعويل عليهم، ذلك أن حكمتهم في الأعمال اليدوية أفضل من أية طريقة متوافرة على "يوتيوب". وهكذا أصبحوا سبباً لزيارة الزبائن المتاجر بدلاً من الاستعانة بالإنترنت.
بطبيعة الحال علينا أن نقدر إبداع الشباب أيضاً، ولكن علينا أيضاً أن نتوقف في المقابل عن تقويض العمال الأكبر سناً. إطلاق العنان للقوة التي تكتنزها الفئتان كلتاهما من شأنه أن يكون مفيداً في مواضع لا تعد ولا تحصى، بيد أن هذا المسعى لن ينجح في حال استخدام العمر كأداة قاسية في قياس الناس والحكم عليهم وإعاقتهم عن أي تقدم.
ولعل الجزء الأكثر فظاعة في الحملة الإعلانية المهينة التي أطلقتها "إنديد" تصنيف الناس في خمس مراحل. دعونا بدلاً من ذلك نفكر في الحياة على مرحلتين، النصفين الأول والثاني. دخلت تواً النصف الثاني من حياتي، سيكون أقصر زمنياً مقارنة مع النصف الأول وكلنا يعرف كيف ستكون خاتمته، ولكنه سيكون أكثر متعة وإثراء لأنني سبق أن تعلمت كثيراً وما زلت أملك وقتاً يسمح لي بمواصلة التعلم. سأكتشف تجارب جديدة وأواصل تجديد مسيرتي المهنية من دون أن أعرف تماماً إلى أين سيأخذني ذلك، وسأعيش بلا حدود وتوقعات. حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات