أخبار الحرب تقلق الجميع لكنها أكثر قسوة على الأطفال، في ظروف مماثلة إخفاء الواقع يعزز القلق لديهم، لكن نقله لا يكون بطريقة عشوائية، فكيف نخفف الضغط النفسي عليهم؟
يجب تنمية الحس الإنساني لدى الطفل والتعاطف مع الآخرين عبر إشراكه في تقديم المساعدة في مثل هذه الظروف الصعبة، فيشعر بأنه فاعل على رغم صغر سنّه.
ولا تشبه حياة أطفال لبنان وغزة حياة بقية أطفال العالم، خصوصاً في هذه المرحلة. واختلفت أحلامهم وتحولت إلى مشاهد مرعبة ترافقهم في نومهم أيضاً. وفي مثل هذه الظروف التي يمرّ بها لبنان، قد لا يكون من الممكن إلا أن نفصل بين الأطفال الذين يعيشون في المناطق التي تتعرض للقصف المتواصل والتي اضطر أبناؤها إلى النزوح، وأولئك الذين يعيشون في بقية المناطق التي تتأثر بظروف الحرب، إنما بصورة غير مباشرة.
فالفئة الأولى تجمع عائلات غادرت قراها وتركت وراءها أراضيها وبيوتها، كما ترك الأطفال فيها مدارسهم وأماكن اللعب الخاصة بهم وأجمل الذكريات التي عاشوها فيها. حالياً، تبدو الوحدة والتضامن بين مختلف فئات الشعب اللبناني أولوية، لكن هناك ما يفصل بين أطفال لبنان أنفسهم، أي بين مَن يعيش ظروف الحرب والقصف المباشر والنزوح، وبقية الأطفال في مناطق أخرى. وفي ظل ظروف يعاني فيها الشعب كاملاً، يقلق الأهل حول أفضل طرق التعامل مع الأطفال، وما إذا كان من الأنسب نقل الواقع إليهم بحد أدنى من الضغط النفسي، أو إخفاء كل ما يتعلق بالحرب وبشاعتها. وإذا كان الحس الإنساني أولوية اليوم أكثر من أي وقت مضى، فكيف لنا أن ننميه لدى أطفالنا في هذه الظروف الصعبة من أجل تخطي هذه المحنة والوصول إلى بر الأمان؟
الأمان أولاً
قد يصعب على الأهل، في مثل هذه الظروف القاسية، اتخاذ القرار المناسب المتعلق بأطفالهم، إذ يبقى همهم الأساس حماية أطفالهم والحفاظ على سلامتهم وصحتهم على المستويين النفسي والجسدي، إضافة إلى سعيهم لتأمين المكان الآمن لهم. لكن، تسيطر أجواء الحرب وتداعياتها على الجميع في مختلف المناطق اللبنانية، ولم يعد أحد بأمان.
وتخطى عدد القتلى الـ 2050 بينهم أكثر من 150 طفلاً و200 امرأة، ومن هنا، يبدو صعباً الاستمرار باستبعاد الأطفال عما يجري حولهم من أحداق، ومهما أراد الأهل أن يجنّبوا أطفالهم الغوص في تفاصيل الحرب وبشاعتها، لا يمكن أن يخفوا عنهم ما يحصل بصورة تامة، خصوصاً أنهم انقطعوا عن التعليم أسابيع عدة، ومن الطبيعي أن يطرحوا أسئلة كثيرة حول أسباب توقفهم عن الدراسة.
وتنصح المتخصصة في المعالجة النفسية شارلوت خليل الأهل بالتعامل بصدق وصراحة مع أطفالهم، على أن تؤخذ بالاعتبار أعمارهم وظروف البيت أيضاً "فالشفافية مطلوبة هنا ويمكن التحدث مع الأطفال عن القصف المدفعي الذي أرغم الناس في مناطق معينة على النزوح والانتقال من قراهم ومنازلهم إلى أماكن آمنة هي المدارس. في ظروف مماثلة، كيف يُستبعد الطفل وهو يشعر بتلك الأحداث غير المعتادة تحصل من حوله؟".
هدوء الأهل مطلوب
وقد يشرح الأهل لأطفالهم أن هذه الأوضاع تُلزم بإقفال أماكن كثيرة ما لا يسمح بالذهاب إلى المدرسة والتعلم كما جرت العادة. وفي الوقت نفسه، ليس المطلوب نشر الهلع في المنزل وفي حياة الطفل وقلبه، بل هناك حلول عدة يمكن اللجوء إليها لجعل الواقع أقرب إلى قدرته على الاستيعاب والتحمّل ليحافظ على هدوئه، و"لتهدئة الأطفال ومساعدتهم على التأقلم في أوقات الأزمات والمحن والحد من تداعياتها على صحتهم النفسية ونموهم الطبيعي، يجب أن يحافظ الأهل أولاً على هدوئهم قدر الإمكان، ولو كانت الضغوط النفسية كبيرة في ظروف مماثلة.
فبصورة عامة، يراقب الأطفال أهلهم ويتأثرون في ردود فعلهم من أهلهم بنسبة عالية، مما يستدعي كثيراً من الحرص من قبلهم مهما بلغت مستويات القلق والتوتر ومن الطبيعي أن يتأثر الأطفال في أهلهم وفي قلقهم"، وتتابع خليل "في سبيل تحقيق ذلك، يجب تجنب مشاهدة الأخبار المزعجة ومناقشتها أثناء وجود الأطفال، لأن ليس من المفترض بهم أن يغوصوا في تفاصيل مماثلة، أما في حال مناقشة بعض الأمور، فيجب الحرص على الألفاظ المستخدمة لتكون مناسبة للطفل ولسنّه. فالتعامل بهدوء مع الوضع، ولو كان صعباً، ينعكس إيجاباً على الأطفال".
ويلاحظ الخبراء في علم النفس أن الأطفال يميلون إلى التعلق بأهلهم بمعدلات زائدة في الحروب والمحن، عندها، لا ترى خليل ضرراً في تقبل بعض الأمور والسلوكيات التي لم تكن معتادة لهم "فمن الممكن احتضانهم، أو من الممكن أن يطلبوا النوم بجوار الأهل، وهي ردود فعل طبيعية في ظروف مماثلة لأنهم يجدون الأمان إلى جانب أهلهم ويتعلقون أكثر بهم بسبب عدم الاستقرار الذي يشعرون به".
وحتى إذا كان الأهل يفضلون في وضع كهذا التكتم حول ما يحصل، من المفترض بهم الإجابة عن تساؤلات أطفالهم بما يتناسب مع أعمارهم، "إذ يسهم إخفاء الحقيقة عن الطفل بتعزيز مشاعر الخوف والقلق لديه، لذلك يجب نقل الواقع إليه مع أهمية التركيز على مشاعر الأمان التي يبحث عنها في ظل الأجواء المسيطرة، إلى جانب ضرورة توضيح الإستراتيجيات المعتمدة من قبل العائلة لحماية أفراد العائلة كافة، حتى أنه قد تكون هناك حاجة إلى تكرار الإجابة لأن الطفل يكثر من طرح الأسئلة ليشعر بالأمان ويجد الإجابة عن أسئلته كافة"، بصورة عامة، أوضحت خليل أن الأطفال يحتاجون إلى مزيد من الوقت حتى يعوا ما يحصل، وفي الوقت نفسه، يجب إفساح المجال لهم ليعبروا بحرية عن مشاعرهم والاستماع إليهم قدر المستطاع ليشعروا بالأمان في ظل الظروف المقلقة المحيطة بهم، "فقد يجد بعض الأطفال صعوبة في التعبير عن مشاعرهم، ومن المهم أن يكون الأهل جاهزين لمساعدتهم على التعبير وإيجاد العبارات المناسبة".
في تعزيز الحس الإنساني
بصورة عامة، التحدث إلى الأطفال عن الحرب لا يكون بطريقة عشوائية، وهذا ما يحذر منه الخبراء في علم النفس. فهم يتأثرون، بصورة خاصة، في أخبار مماثلة تثير قلقهم سواء في الليل أو في النهار، وتنعكس أيضاً على سلوكياتهم، ويجب أن يكون الحديث مع الطفل في شأن الحرب صريحاً وحقيقياً لكنه مناسب لعمره. فالظروف الحالية تفرض حكماً، نقل الحقيقة إلى الطفل بما أنه يشعر بما يحصل من حوله، لكن طريقة نقل المعلومات دقيقة ويجب أن تكون مناسبة لسنّ الطفل ونضجه وقدرته على الاستيعاب.
على سبيل المثال، أشارت خليل "إلى أن التركيز على الأمان جوهري بالنسبة إلى الأطفال الأصغر سناً. يحتاج الطفل إلى الاطمئنان لوجود أهله إلى جانبه. أما من هم أكبر سناً، فمن الطبيعي أن يعطوا مزيداً من التفاصيل، خصوصاً أن لهم مزيداً من التساؤلات. أما في حال عدم الإجابة عن تساؤلاتهم، فمن الطبيعي أن يبحثوا عنها من مصادر أخرى، ومن الممكن ألا تكون هذه المصادر موثوقة ولا مناسبة لسنهم، فتسبب لهم مزيداً من القلق بدلاً من أن تطمئنهم. وحتى بالنسبة إلى الأطفال الأكبر سناً، فهم يحتاجون إلى الاطمئنان لسماع أن ثمة من يبحث عن حلول حتى يكون الجميع بأمان".
من جهة أخرى، من المهم التأكيد للطفل أن كل ما يشعر به طبيعي ومقبول، سواء شعر بالخوف أو القلق أو الاضطراب أو غيرها من المشاعر التي يمكن أن تغلب في ظروف مماثلة.
أما عن إقفال المدارس، فيجب أن يعلم الطفل أن عائلات نزحت وتركت منازلها بسبب القصف المدفعي والغارات، ومكثت في المدارس مما استدعى وقف التعليم إلى حين يهدأ الوضع. لذلك يجب الحرص على تقديم المساعدة اللازمة إلى هؤلاء الأشخاص الذين يمرون في ظروف صعبة. وأضافت المتخصصة في المعالجة النفسية "عندما يدرك الطفل ذلك، نعلمه في الوقت نفسه حس التعاطف مع الآخر والحس الإنساني الذي من المفترض تنميته لديه في هذه المرحلة العمرية. ويجب تذكير الأهل بأنهم يشكلون دوماً مثالاً لأطفالهم.
كما أن إشراكهم في عمليات المساعدة لأفراد المجتمع، وتحفيزهم على التبرع بأغراضهم وألعابهم وملابسهم لمن خسروا كل ما لديهم، يساعدهم ليدركوا أنهم على رغم صغر سنهم، قادرون على تقديم المساعدة، ويمكن أن يكونوا فاعلين في المجتمع ويحدثوا فارقاً، علماً أن الحس الإنساني لا يُنقل إلى الطفل في الأوقات الصعبة وحسب، بل هي مسألة يجب تنميتها لديه في مختلف الأوقات والظروف من خلال الروتين اليومي، على أن يكون الأهل مثالاً له دوماً. أما حالياً فيجب تشجيع الطفل على تقديم المساعدة بطريقة مجدية للآخرين، والوقوف إلى جانب الناس، والصلاة من أجل الوطن لتمر هذه المحنة بسلام".
وتعتبر مشاركة الطفل في مثل هذه الظروف جوهرية ولها أهمية قصوى، حتى أنه يمكنه المشاركة بأعمال الإغاثة في مراكز الإيواء ليكون ذا منفعة ولتعزيز الحس الإنساني ومشاعر التعاطف مع الآخرين لديه، إضافة إلى الحس الوطني عندما يكون معنياً بما يحصل في البلد ويقدم المساعدة للآخرين.
لكن في مقابل إشراك الطفل في المجتمع وفي مساعدة الآخرين، يجب الحفاظ على حد أدنى من الروتين ليشعر الطفل بالأمان. وتشدد خليل على أن الروتين أساسي دائماً بالنسبة إلى الأطفال حتى يشعروا بمزيد من الأمان والاستقرار، "وإذا كان ذلك ممكناً، على رغم ظروف الحرب، يجب خصخصة أوقات معينة مع الطفل، وممارسة أنشطة ترفيهية معه، واللعب حتى لو داخل المنزل طالما أن العائلة تكون مجتمعة في ممارسة هذه الأنشطة، فيشعر بالأمان في الوقت نفسه، وبدلاً من تعرّض الأطفال لأخبار الحرب، يمكن الحفاظ على الأنشطة الجسدية المعتادة قدر المستطاع والحرص على إبقاء التواصل مع أشخاص مفضلين لهم.
ففي أوقات الحروب أكثر ما يحتاج إليه الطفل هو الصراحة في نقل الواقع بما يتناسب مع سنه، والأمان الذي يجده مع عائلته وفي الأنشطة المفضلة له"، لكن هنا، لا بد من الفصل بين الأطفال البعيدين عن أماكن القصف وأولئك الذين تركوا بيوتهم وتعرضوا للقصف المباشر وعاشوا تجربة النزوح، فهؤلاء يحتاجون إلى متابعة نفسية خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها. حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات