في كل صباح، نرى المشهد المألوف لأطفالنا وهم يسيرون أو يركبون الدراجات أو ينتظرون الحافلة في طريقهم إلى المدرسة، إيذاناً ببداية عام دراسي جديد. بعضهم كما وصفهم شكسبير "يزحف كالحلزون على مضض" بخطى متثاقلة، وآخرون يسيرون بحماسة وفرح، وكثيرون منهم منشغلون بهواتفهم الذكية.
إن رؤية الوجوه البشوشة للأطفال العائدين إلى المدارس ترفع من معنوياتك، تماماً كما يجعلك وجه حزين أو شخص يعاني الوحدة تشعر بالخوف والرعب. ولكن الأطفال الذين نشعر بالقلق حيالهم حقاً هم أولئك الغائبون عن المشهد تماماً. وعلى رغم أن كثيراً منهم يفرحون ببدء الفصل الدراسي الجديد ورؤية أصدقائهم، إلا أن عدداً مثيراً للقلق حقاً من الأطفال يرفض الذهاب إلى المدرسة تماماً.
وفي وقت سابق من هذا العام، وجدت دراسة استقصائية أن ما يقارب ثلاثة من كل 10 تلاميذ في المرحلة الثانوية يتجنبون الذهاب إلى المدرسة لأن القيام بذلك من شأنه أن يصيبهم بحالة من اضطراب القلق، مما يؤدي إلى تفويت 10 في المئة من الدروس المدرسية. وهذا يعكس زيادة مضاعفة بعد الجائحة إلى 17 في المئة من التلاميذ في المدارس الابتدائية.
ويعاني أكثر من 93 ألف طالب في إنجلترا فقدان أكثر من نصف تعليمهم بسبب الغياب المتكرر عن المدرسة، إذ يواجهون أيامهم بمشاعر قاتمة من المقاومة أو البؤس العميق، ويلجأون إلى التوسل أو الصراخ أو حتى الاختفاء التام عن الأنظار، رافضين الذهاب إلى المدرسة. وكشف تقرير صدر الشهر الماضي عن أن 500 طفل في إنجلترا يتم تحويلهم يومياً إلى خدمات الصحة النفسية التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية بسبب اضطراب القلق، مما يمثل أكثر من ضعف المعدل المسجل قبل بدء جائحة كورونا. ويعني هذا الرقم أن طفلاً واحداً كل ثلاث دقائق يدخل إلى نظام الصحة النفسية في إنجلترا، أي ما يقارب 4 آلاف طفل أسبوعياً.
وهذا يتعلق بأولئك الذين يتمكنون من الوصول إلى هذه المراكز. وتشير أرقام هيئة الخدمات الصحية الوطنية إلى أن 28 في المئة ما زالوا ينتظرون الدعم النفسي لأشهر طويلة بعد محاولتهم الأولى للحصول عليه، بل الأسوأ من ذلك، جرى إغلاق ملفات تحويل 39 في المئة منهم قبل أن يتلقوا أي دعم على الإطلاق.
وكل صباح، يبدأ أكثر من 1.6 مليون يوم دراسي بصراع مرير بين الأهل وأطفالهم الرافضين للذهاب إلى المدرسة، صراع تتخلله توسلات وإصرار وربما صراخ، ومع ذلك، لا يفضي إلى شيء. وفي كثير من الأحيان، تبدأ فرص هؤلاء الأطفال في الحياة بالتلاشي من تلك اللحظة.
وتكشف معاناة أطفالنا النفسية عن مشكلات عميقة في نمط حياتنا وأساليب تربيتنا لأبنائنا، لا سيما أن أسباب الضغوط النفسية التي يعانيها الشباب اليوم متعددة ومتنوعة، ولكن تظل هناك عوامل أساسية يجمع الخبراء على أن لها دوراً رئيساً في معاناة أطفالنا النفسية ومنها الضغوط الأكاديمية المتزايدة وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي وأزمة غلاء المعيشة.
أطفالنا في أمس الحاجة إلى ثورة تربوية تعيد لهم حب الاستطلاع والاكتشاف، فالتلقين المفرط بهدف اجتياز الاختبارات، بدلاً من جعل التعلم رحلة ممتعة وملهمة، قد جرّد العملية التعليمية من روحها، وحوّل الفصول الدراسية إلى ساحات تفتقر إلى الإبداع والحيوية. والنتيجة هي أجيال من الطلاب يعانون تراجعاً في التحصيل الدراسي.
وفي نماذج تعليمية رائدة مثل فنلندا، تحظى الأمهات بدعم حكومي شامل يتيح لهن حرية الاختيار بين التفرغ لرعاية أطفالهن في سنواتهم الأولى، أو الدخول في سوق العمل من دون قلق. ويسهم هذا الدعم الذي تقدمه الحكومة الفنلندية، إضافة إلى نظام تقييم شامل يعتمد على متابعة المعلمين لأعوام، في بناء أجيال من الأطفال يوصفون اليوم بأنهم الأكثر سعادة والأقل توتراً في العالم، بعيداً من ضغوط الاختبارات القياسية التي تُفرض على الأطفال عند سن السادسة، في مرحلة لا تزال فيها قدراتهم في طور النمو والتطور ومتفاوتة من طفل لآخر.
وفي ظل سلسلة "الإصلاحات" التعليمية التي طاولت المناهج الدراسية البريطانية وتحت وطأة التدخلات الأيديولوجية المتكررة من قبل وزراء التعليم المتعاقبين (شهدت الوزارة تعيين خمسة وزراء تعليم في غضون عامين فقط)، اضطر المعلمون إلى حشو أدمغة الأطفال بالمعلومات بهدف اجتياز الاختبارات. وفي محاولة للتصدي لتراجع المستويات التعليمية خلال الأعوام الأخيرة، لجأت الوزارة إلى زيادة حجم الواجبات المدرسية، مما فاقم من حدة اضطرابات القلق والإجهاد لدى الجميع، طلاباً ومعلمين وأولياء أمور على حد سواء.
وفي خضم الأعباء الإدارية المتزايدة وتقييم الأداء المستمر، فقدَ التعليم في إنجلترا كثيراً من بريقه وحيويته، وتحول إلى مجرد عملية روتينية مملة. فلا عجب إذاً أن ربع المعلمين الجدد يستقيلون من منصبهم في غضون ثلاث سنوات فقط، وثلثهم بعد خمس سنوات بسبب الضغوط الهائلة التي تدفع الأطفال وأولياء أمورهم والمعلمين إلى حافة الانهيار. ومن اللافت للنظر أن كاليفورنيا أصدرت أخيراً "قانون الواجبات المنزلية الصحية"، وهو تشريع تقدمي يستحق أن نستفيد منه هنا في المملكة المتحدة.
ويهدف القانون إلى تخفيف عبء الواجبات المدرسية على الطلاب، والتخلص من الكلف المدرسية غير المدروسة والاختبارات المفرطة، وجاء سن القانون عقب الشكاوى التي تقدم بها أكثر من نصف أولياء الأمور والأطفال في كاليفورنيا الذين أكدوا أن الواجبات المدرسية المفرطة تضر أكثر مما تنفع، إذ تزيد من مستويات اضطراب القلق لدى الطلاب، مما يعوق عملية التعلم ويؤدي في كثير من الأحيان إلى نتائج عكسية، وجعل صبر أولياء الأمور الأميركيين ينفد.
والحق أن حالة اضطراب القلق هي شعور مرعب. ولا يوجد سبب طبيعي لانتشارها على نطاق واسع بين شبابنا، ولكن أسس الصحة العقلية الجيدة تم وضعها دولياً من قبل باحثين في جامعة نوتنغهام وتم تلخيصها في إطار عمل "تشايم" CHIME، وهي تعني التواصل والأمل والهوية والمعنى والتمكين.
لكن المقلق حقاً هو أن هذه الركائز الأساسية للصحة النفسية تزداد هشاشة بالنسبة إلى شبابنا.
إن التركيز المفرط على تكنولوجيا الاتصالات أضر بقدرتهم على التواصل الحقيقي مع بعضهم بعضاً، وأغرقهم في دوامة من التشتت ووسائل التواصل الاجتماعي، ودفعهم إلى متاهات الخوارزميات التي تعرضهم للمواد الإباحية والعنف في مراحل حرجة من نمو عقولهم.
إذا كانت المقارنة تقتل البهجة، فإن الأعوام الأساسية لتكوين شخصية البالغين تُقضى الآن في بيئات تنافسية حيث تقاس قيمتهم بعدد الإعجابات وغيرها من أشكال التأكيد الزائفة. والنتيجة هي جيل من الأطفال يعاني انعدام الثقة بالنفس والمظهر ويقضي سنواته الأكثر ضعفاً من دون دعم نفسي في عالم ينتشر فيه التنمر الإلكتروني.
حظرت مدارس في فرنسا والمجر وهولندا وأجزاء من بلجيكا الهواتف الذكية تماماً، كما أن كثيراً من المدارس الخاصة البريطانية تطبق بالفعل سياسة مصادرة الهواتف طوال اليوم الدراسي. فلماذا لا يتم تعميم هذه التجربة على المدارس الحكومية البريطانية لنرى ثمرتها على أرض الواقع، لا سيما أن الأدلة الآتية من هولندا تؤكد بصورة لا لبس فيها الفوائد الكبيرة لحظر الهواتف. ومع ذلك، يبدو أن بريطانيا لا تزال مترددة في اتخاذ هذه الخطوة البسيطة التي يمكن تطبيقها على الفور.
إنقاذ أطفالنا من براثن اضطراب القلق يتطلب منحهم الأمل، مما يعجز نظامنا التعليمي الحالي، الذي يعود تصميمه للحقبة ما بعد الفيكتورية، عن تحقيقه، فهو مصمم في الأساس لتخريج عمال مصانع وعمال يدويين وإداريين، مما يحرم كثيراً من الأطفال من الأمل حتى قبل أن يكملوا دراستهم.
وعلى رغم أن الصناعات الإبداعية تشكل أحد أبرز مكامن قوة بريطانيا على الساحة العالمية، إلا أن عقوداً من العداء تجاه الفنون والموسيقى والدراما في المدارس وخارجها أدت إلى خفض التمويل المخصص لها. بالتالي، فإن توفير الفرص للإبداع الذي من شأنه أن يجلب الفرح لكثيرين، فضلاً عن الدخل للاقتصاد - أصبح في حال يرثى لها.
أجد صعوبة عندما أشرح لابني لماذا عليه أن يقضي أسابيع في تعلم الكسور التي يمكن للآلة الحاسبة حلها في ثوانٍ، في حين يتم تقليص دروس شكسبير إلى لقاءات "مجزأة" ومربكة مصممة فقط لاجتياز الاختبارات، بدلاً من الاستمتاع بقراءة وتمثيل أعظم مسرحيات العالم.
لماذا نحصر أطفالنا في مهمات سيقوم بها الذكاء الاصطناعي بدلاً من إطلاق العنان لإبداعهم وخيالهم وتوسيع آفاقهم؟. إننا بذلك نحرمهم، بل نحرم المجتمع بأكمله، من الأمل في مستقبل مزدهر.
وتشير الأبحاث إلى أن الهوية والمعنى والتمكين هي أسس راسخة للصحة النفسية، وهي ذاتها المواهب التي يمنحها الإبداع للأطفال، سواء عبر الرسم، أو التمثيل، أو صناعة الفخار، فالإبداع لا يغذي الروح فحسب، بل يشعل أيضاً جذوة الفضول ويصقل البصيرة ويعزز الثقة بالنفس.
لقد عرفنا أيضاً منذ عقود مدى نجاح التعليم المهني والعملي في أوروبا، قبل وقت طويل من تدفق البنائين البولنديين والكهربائيين السلوفاكيين والسباكين البلغاريين والميكانيكيين الرومانيين الذين "سرقوا" على ما يبدو الوظائف التي لم نتمكن من القيام بها.
على مر السنين، أخفقنا في تعريف أجيالنا الشابة بهوياتهم الأصيلة وبتاريخهم العريق ولم نُرشدهم إلى تنوع المسارات التي يمكنهم سلوكها لتحقيق أحلامهم، ولم نُقدّر ما يمتلكونه من طاقات إبداعية خلاقة وقدرات ذهنية فذة. فلا غرابة إذاً أن يرفض كثيرون منهم المدرسة التي لم تعد تلبي حاجاتهم ولا تلامس شغفهم.
الحكومة مطالبة اليوم بأكثر من مجرد زيادة التمويل لخدمات الصحة النفسية للأطفال والراشدين التي تعاني أزمة حادة، وتوفير الدعم التعليمي الخاص اللازم لذوي الاحتياجات في المدارس. ومع ذلك، يجب علينا أن ندرك أن معظم حالات الضيق واضطراب القلق والاكتئاب ليست علامات على خلل نفسي، بل هي صرخة استغاثة من جيل يكافح للتكيف مع عالم متسارع ومتغير يصعب فهمه.
لكي يستطيع أطفالنا مواجهة تحديات المدرسة والحياة بكل فخر وقلوب يملؤها الأمل، يجب أن يشعروا بأننا نفهمهم وأننا نسعى جاهدين إلى تغيير الواقع المرير الذي يعيشونه وأن هناك أنظمة قادرة على مساندتهم في الأوقات العصيبة. حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات