لا تزال عالقة في أذهاننا الأيام الأولى للصيام بعد التكليف ونتذكر كم عانت الأمهات، في الحث والتشجيع وتوفير الطعام حسب الرغبة والهدايا وأحيانا الترهيب والزجر حتى وصلنا إلى مرحلة النضج بأهمية هذه العبادة، وإنها أكبر من كونها امتناع عن الطعام والشراب، والرحمة المتجلية في هذه العبادة، ومدى تدريبها لنا وتربيتها على مستوى البدن والروح وحتى بتعديلها بعض الصفات.
(بشرى حياة) كانت لها جولة في مضمار هذا الموضوع فسألنا الأمهات عن تجاربهن فقالتْ تغريد محمد: "تجربتي مع ابنتي حديثة العهد بالصيام لم تكن سهلة خصوصا مع ضعف بنيتها، فالبرغم من تدريبي لها بصيام بعض الأيام المستحبة، إلا إن تذمرها المستمر من الاستمرار بالصيام أتعبني وأنا أحاول في كل الوسائل أن اوصل لها أهمية الصيام وفوائده واحيانا أجربها وازجرها خصوصا حيث أراها تباغتني لتتناول بعض الأطعمة مع أخوتها الصغار، أو تشرب بعض الماء خفية، في الحقيقة هذا الجيل صعب المراس فأنا أسايرها وأستشير كثيرا من الأخوات في مجال التربية والدين، لكن معاناتي معها مستمرة، ومحاولاتي كذلك فأنا أعلم بأن هذه المسؤولية هي على عاتقنا ويجب أن نؤديها لكنها جهاد في هذا الزمن الصعب".
أما غيداء حسن فتنقل تجربتها قائلة: "لدي فتاة مكلفة وولد على أبواب التكليف والحقيقة إن في الأمر لمشقة بالرغم من تشجيعي ووالدهم على الصيام وعمل أجواء خاصة بالسحور وتقديم ما يحبونه من أطباق إلا أنهم يتذمرون أحيانا كثيرة خصوصا مع تزامن الشهر الفضيل مع الدوام المدرسي، اتبعت مع ابنتي فكرة (صوم العصافير) التي كانت تتعامل أمي بها وأظنها أنجح الطرق في التأهيل وهي أن اجلس الجميع على مادة السحور ونتفق على الصيام وقبل آذان الظهر بربع ساعة اضع لهم بعض الطعام أو الفواكه مع كأس ماء ثم يكملون الصيام حتى الإفطار، لعله أكثر الصعوبات التي واجهتها هي مع ابنتي الكبيرة، وارى اليوم اخوتها يقلدونها حتى الصغير ذي السبع سنوات هو يحاول معهم ممارسة (صوم العصافير)، وسط تحديات صعبة، في الواقع الجهد الكامل على الأم، في تدريب الأطفال على الصيام".
وقالتْ سارة محمد: "لم اتعب كثيرا في تدريب ابنتي على الصيام لأنها وسط مجموعة من أقاربها الأطفال الذين من عمرها تقريبا الجميع صيام وهي من ارادت تجريبه ضمن تحدي بينهم، احيانا تتذمر وأخرى تحاول تصبير نفسها".
وقالت الاستشارية م.م أنفال سليم مرزة: "الصيام في علم النفس يمكننا طرحه ايضاً تحت عنوان «التسامي» وهو آلية نفسية دفاعية او حيلة تحول الحاجات والدوافع إلى إنجازات «مفيدة اجتماعيًا» وبما اننا ذكرنا كلمة «حاجة»، فالطعام هو لإشباع حاجة الجوع والصيام هنا سيكون بمثابة تسامي مفيد دينياً ونفسياً، لان ضبط شهوات البطن سيساعد الطفل على حل الكثير من الصراعات النفسية الاخرى في مراحل متقدمة من عمره.
لذلك فإن التربية الوالدية يمكنها أن تستعين بالصيام لتعويد الطفل على مبدأ تأجيل الرغبات والحاجات وضبط النفس عما ترغب به لينمو نفسياً بطريقة سليمة وصحية ولتتكون لديه شخصية سويّة، ولكن علينا أن نمتنع تماماً عن استخدام الصيام كعقاب له أو إجباره عليه، بل الإفادة من إحساس الاطفال بالجوع والمعاناة أثر الصيام، تعليمهم الصبر وتذكيرهم بالفقراء والمساكين والمقاتلين المجاهدين الذين يصومون ولا يجدون ما يفطرون به، ومن ثم حثّهم على الصدقة لأمثالهم وعلى شكر نعم الله عليهم.
تهيئة الأطفال نفسياً للصيام في شهر رمضان بحيث يكونوا أكثر استعدادا وقبولا لمبدأ الصيام:
١_ التدريج في الصيام، حيث يتم التغاضي عن أخطاء الأطفال في الصيام في أول مرحلة، فلو شرب مثلا لا يتم تعنيفه بشدّة وإنّما حثهُ على إكمال الصيام شيئا فشيئا وهكذا.
٢_ التشجيع المستمر الذي يولد الحافز الكبير للطفل من مثل مدح الطفل الصائم أمام الآخرين.
٣_ إذا كان في البيت أكثر من طفل فلتُوجد الأم بينهم روح التنافس على الصوم والعمل الصالح، وتعدهم بالهدايا لمن أتم صيام رمضان كاملا، ثم لتنفّذ ما وعدتهم به بعد ذلك.
٤_ يمكننا دائماً استخدام عبارات مفيدة تخدم ما طرحناه خصوصاً إذا ما شعر طفلنا بالجوع مثل (أعلم أنك الآن جائع ولكن أنت صائم لذا عليك الانتظار الى أن يحين موعد الطعام) أي الاذان، فبذلك يعلم هو الوقت المسموح به للطعام ويعتاد على الصبر لتحقيق حاجته في الوقت المناسب لها.
٥_ علينا تشجيع الطفل من خلال اشراكه في تحضير الطعام الشهي الذي سيتناوله في الموعد المحدد وفي تكرار عبارات مشجعة مثل: الله يحبك، انت قوي، انت قادر على التحمل، انت صائم مثلنا.
٦_ الامتناع عن اجبار الطفل على الصيام او تخويفه من عقاب الله بل يمكننا ان نمدح امامه اطفال اخرين يشاركون اهلهم الصيام ولكن طبعاً دون ان نقارنه معهم.
٧_ عدم الشفقة الزائدة الموصلة إلى منع الأبناء من الصيام، فإن ذلك يؤدي إلى حرمانهم من فوائد تربوية عديدة، وقد يؤدي بالطفل إلى فقدان الثقة بنفسه إذا تكرر هذا الأمر كثيرا كما أن ذلك يقتل في الطفل روح المبادرة والمغامرة.
٨_ اشراك الطفل في تزيين المنزل وغرفته بأبسط ما يمكن ولكن شرط ان يكون من وحي الشهر الفضيل لنشجعه بطريقة صحية، كما يمكننا تشجيعه من خلال الاستيقاظ في منتصف الليل من اجل تناول السحور معاً وانتظار المسحر الذي يبث الفرح في نفوس الأطفال ويعزز عامل التشويق.
٩_ ثياب العيد والهدايا الأجمل ستكون لمن سيحاول ان يصوم (نكرر هذه العبارة امام الطفل وليس بشكل مباشر اي لا تكون موجهة له وحده والتركيز هنا على المحاولة، وليس على الصوم نفسه لنشجع الطفل ونحفز جهازه العصبي والنفسي على عملية الضبط وعلى تحمل فكرة التأجيل).
إن الهدف الرئيسي من كل ما ذكرناه هو الاستفادة مما انزله الله من فرائض في سن مبكر لأنه سيسهم في تربية اطفالنا بشكل سليم وان نجعل منهم شخصيات سوية قادرة على تحمل مصاعب الحياة، وضبط النفس، وتحقيق أهداف بعيدة المدى تتناسب مع قيمنا أو مع تصوراتنا عن الأفضل لأنفسنا، وانه سبحانه وتعالى قد وضع لنا في كتابه الكريم قانوناً واضحاً ونوراً يفيض من سراج واحد مهما اختلفت تسمياته.
اضافةتعليق
التعليقات