قالت سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام): (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ... فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ صَلى الله عليه وآله).
في تراكمات الماضي الجاهلي حيث سحقتهم الصراعات الدامية والجسيمة التي هيمنت على القبائل، وتغلغل الحقد في النفوس وتوارثت الأجيال البغض والكراهية، وفي هذا الجو المثخن بتكاليف باهظة في الأموال والأعراض والأرواح، بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) لإنقاذ العرب من أوثان الجاهلية العمياء.
ومن ذلك أنه (صلى الله عليه وآله) بعد هجرته المباركة قام بإنقاذ قبيلتي الأوس والخزرج الذين خاضوا حروبا أهلية دامية لمدة مائة عام، لينهي مأساتهم ويحل محلها المحبة والتآخي والتعاون في النفوس، ولأجل هذا نزلت هذه الآية: (وكنتم على شفا حفرة من النار... فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)[1].
وعندما ارتقت المنبر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مسجد الرسول وألقت بخطبتها الفدكية، التي تعتبر خلاصة وعصارة الاسلام على أسماع المهاجرين والأنصار، استشهدت بهذه الآية وذكّرتهم بالإنقاذ الذي قام به الرسول (صلى الله عليه وآله) والنعمة التي أنعم الله بها عليهم وكيف انقلبت بذلك حياتهم نحو الأفضل والأسعد.
في معنى الانقاذ
يعرّف الانقاذ لغويا أنه التخليص أو النجاة، والمنقذ هو الذي ينقذ شخصا من ورطة أو أزمة ويخرجه سالما منها. وهناك فرق بين الهداية والإنقاذ، فإن الهداية هي اراءة الطريق كالذي يتكلم حول الزواج وأهميته وكيف أنه يحصن الانسان من الانحراف، ولكن الانقاذ هو الأخذ بيد الناس حتى الوصول الى الهدف، وكمثال لذلك نقوم بالإرشاد من خلال المحاضرات حول العلاقات الزوجية الناجحة، ولكن الإنقاذ يعني أن نقوم بذلك من خلال الدورات والورش والأنشطة العملية لتعطي للمتزوجة مهارة التعامل الصحيح مع الشريك، وفعلا أقمنا تلك الدورات، بعد انتهاء الدورة قالت المشاركات أن 70% من مشاكلهم قد انخفضت، كانت بمثابة المصباح لاراءة الطريق الصحيح في التعامل مع شريك الحياة، وكانت الدورة انقاذا لحياتهم من الفشل.
معاناة عالم اليوم
التقدم التكنلوجي والعلمي الهائل في عالم اليوم أوصل الانسان الى قمة الرفاهية، ولكن مع ذلك يستمر الانسان في فقدان جوهره المعنوي والانساني والأخلاقي، ويصبح مجرد آلة وشكل مفرغ من محتواه الداخلي، حيث يتعامل بقسوة مع أبناء جنسه وينتهك حقوقهم، ويمارس الازدواجية تحت غطاء الغاية تبرر الوسيلة، حتى أصبحت حقوق الانسان والدعوة الى الحريات هي نوع من الحرب ضد الخصوم.
في هذا العالم المتناقض واللا أخلاقي لابد من توجيه البوصلة للطريق المنقذ الذي بدأه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث نقرأ في زيارة الجامعة: (وَبِكُمْ أَخْرَجَنَا اللَّهُ مِنَ الذُّلِّ وَفَرَّجَ عَنَّا غَمَرَاتِ الْكُرُوبِ وَأَنْقَذَنَا مِنْ شَفَا جُرُفِ الْهَلَكَاتِ). وهذا يقع على عاتق العلماء والمصلحين والنخب الثقافية والوالدين والمعلمين والتربويين وكل انسان يحمل شعورا بالمسؤولية أو في صحوة ذاتية يقفها الانسان مع نفسه.
أنواع الانقاذ
ينقسم الانقاذ على قسمين:
الأول- الانقاذ المادي: مثل انقاذ الغريق الذي لا يعرف السباحة، أو اطعام الجائع أو اكساء اليتيم وايواءه وهو بحد ذاته جيد ولكن يبقى محدودا ومؤقتا، فالجائع قد يتم اطعامه لوجبة واحدة.
لذا نرى فئة كبيرة جدا في المجتمع سواء على مستوى أفراد أو مؤسسات يمارسون هذا النوع من الإنقاذ.
الثاني- الإنقاذ المعنوي: هو الإنقاذ الذي يكون ممتدا ومستداما من خلال حلول جوهرية من خلال التعليم والتربية على التفكير واستخدام العقل في حل الأزمات والمشكلات واستخدام الحلول والطرق الاستراتيجية، فالغريق لايكفي إنقاذه بل لابد من تعليمه السباحة، والجائع اشباعه التام عبر تعليمه مهنة لكسب المال، واليتيم احتضانه بالتربية والتعليم والارشاد.
وهذا ماقام الرسول (صلى الله عليه وآل وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) وهو الأهم والمطلوب، فعن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: في قول الله عز وجل: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)، قال: من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنما أحياها[2].
ومفهوم هذا النوع واسع جدا كمن يرشد الآخرين لمنهج وفكر أهل البيت (عليهم السلام) ويصوغ عقليتهم وشخصياتهم، قد تتأثر بعض الفتيات بنماذج من مواقع التواصل الاجتماعي في التهاون بالحجاب فإنقاذها يكون محاورة الفتاة واقناعها في الحجاب الحقيقي وبيان فوائده ومنافعه وحمايته لها ليجعلها نفيسة وغالية فيه، أو يتجه بعض الشباب الى اللامعلوم والتيه، فنراه لايتقن مهنة أو لايعرف ماذا يجب أن يعمل، فإنقاذ مثل هذا الشاب الضائع هو تعليمه كيف يصوغ هدفا في حياته وكيف يحققه وماهي مستلزماته، أو تعليم الناشئة على الأسس والقيم الثابتة وممارستهم لبعض المهارات الفكرية والأخلاقية لتقوية شخصياتهم بحيث ينشأون أقوياء مقابل هذا التسونامي الثقافي.
وفي رواية مهمة جدا عن الامام الحسن (عليه السلام) يوضح فيها أهمية هذا الانقاذ حيث يقول: (فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السُهى)[3].
يتيم آل محمد: هو الذي انقطع عنه امام زمانه كحالنا اليوم ونحن نعيش في زمن الغيبة.
السُهى: إسم فلكي أصيل لنجم شهير، حيث يعتبر نجم السُهى ليس لامعاً جداً ولكنه بالرغم من ذلك ذو شهرة كبيرة، ففي الثقافة العربية القديمة كان يعتبره العرب معياراً لقوة الإبصار لأن نجم السُهى يُشكل زوجاً نجمياً مرئي مع نجم "المئزر"، لكن السُهى أخفت بكثير، فكان يعتبر أن الإنسان ذو البصر الحاد هو الذي يستطيع أن يميز السُهى بجوار المئزر، ولايخفى على أحد أفضلية الشمس على السُهى، فالذي يكفل هذا اليتيم بحيث يعلمه ويفهمه أمور دينه ودنياه ويخرجه من اللاهدفية والضياع فضله على كافل اليتيم الفاقد لوالديه يطعمه ويشربه كفضل الشمس على السُهى.
فالدروس الدينية أو الدورات أو الكتب التي تفتح عقل وفكر الانسان على الطريق الصحيح يدخل في هذا القسم، وقلة من الأفراد والمؤسسات من تحمل عبأ هذا النوع مقارنة بالنوع الأول.
وختاما نذكر بعض الأفكار من أجل انقاذ أنفسنا ومجتمعنا:
-لابد من الرجوع الى قيم أهل البيت (عليهم السلام) مثل التعاون، عدم النزاع، اتحاد القلوب، عدم الانانية، المحبة والألفة. (وتعاونوا على البر والتقوى)[4].
- مبدأ الجار ثم الدار هو عبارة عن حب الآخرين وحب مصالحهم وعدم ظلمهم وعدم انتهاك لحقوقهم وتربية الأطفال على هذا المبدأ.
- التوجه إلى الانقاذ الثقافي أكثر من ذي قبل لأنه هو الذي يستنقذ الانسان من وحل الجهل والتخلف الذي تلوث به المجتمع. (لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ، وَحَيْرَةِ الضَّلالَة)[5].
- أن يكون العلم والمعرفة والثقافة والكتاب من أبجديات الحياة اليومية لكل فرد كي يتمكن من اثراء جوهره أكثر فأكثر.
- التربية العميقة والواعية لأطفالنا منذ نعومة أظفارهم هو أفضل تطبيق لمفهوم الإنقاذ .
(فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك)[6].
اضافةتعليق
التعليقات