لماذا أنجبتني يا أماه؟
منذ ثلاثين عامًا، وأنا أسمعها من ولدي كلما عثر حظه، أو سقمت صحته، كلما صفعته الحياة، كلما سمح له التعب أن يعودني ويريح حمائله عندي، فيقولها لي معاتبًا ومازحًا، وما سئمتُ منها يومًا.
هل كانت السعادة ستحيطه لو لم يُخلَق؟ لكن ماذا سيكون ساعتها؟
ولطالما ردّد قول الإمام زين العابدين علي بن الحسين السجاد (عليهم السلام):
"أللشقاء ولدتني أمي، أم للعناء ربتني؟ فليتها لم تلدني ولم تربني".
فأجيبه:
"وليتني علمتُ أمن أهل السعادة جعلتني؟ وبقربك وجوارك خصصتني؟ فتقر بذلك عيني، وتطمئن له نفسي".
وفكرتُ مع نفسي كثيرًا، وكتبت:
أنجبتك يا وحيدي لأنجو من الوحدة.
أنجبتك وأنا أستحضر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل:
"تزوجها ولودًا سوداء، ولا تزوجها جميلة حسناء عاقرًا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة. أما علمت أن الولدان تحت العرش يستغفرون لآبائهم، يحضنهم إبراهيم، وتربيهم سارة في جبل من مسك وعنبر وزعفران" (1).
ولعل الله عز وجل خصّ نبيه إبراهيم وزوجته سارة بهذه المكانة لحرمانهما من النسل عُمرًا، ورغم تعويضهما بابنين جاء من ذرية أحدهما سيد المرسلين.
أنجبتك يا فؤادي، لأرى فؤادي يمشي على الأرض، ولتكن سببًا في دخولي الجنة عبر تربيتك، وأكون سببًا في دخولك الجنة عبر برّك.
أنجبتك لتؤنس أيامي، وتطرد الوحشة عن بيتي، يا سراج هذه المهجة.
لم أنجبك لتكون عالمًا، ولا مخترعًا، ولا مكتشفًا، ولا فنانًا تغمره الشهرة وتكسره، ولا فاتحًا، ولا لتكون مشهورًا في الأرض، فلعلك مشهورٌ في السماء.
أنجبتك لتقول كلمة حقّ تعدل الميزان، أو تنقذ حياة إنسان. أنجبتك لعلك تحظى بشريكة ترفعها وترفعك، تسعدها وتسعدك، وليكن لك نسلٌ يريد الله ألا ينقطع.
سبحانه علّام الغيوب، لا نعلم غاياته.
أنجبتك لتكون أنت، بمسيرتك الفريدة في هذه الحياة، بكل ما فيها من حلو ومرّ، ومن فرح وحزن، ومن يُسر وكدر.
ثم تذكرت حديثًا حكته لي إحدى زميلاتي اللواتي تأخر زواجهن، عن مشهد أثّر فيها:
حين كانت تقف في باص ذي طابقين – أو "مصلحة أم طابقين" كما كنّا نسميها أيام زمان – تقول:
كنت أقف في موقع في الطابق الثاني يُشرف على الطابق الأول، فأشاهد الركاب وأراقبهم لأزجي الوقت حتى أصل إلى البيت. فتوقفت عيني عند أم تقف بجذع مائل، تسند نفسها إلى أحد المقاعد التي لم ينتخِ صاحبُها فيتركه لها، تحمل صغيرًا قد يكون ابن عامين، يطوق رقبتها بكلتا يديه، وهي تحمل – إضافة إليه – حقيبة يدها، وكيسًا بلاستيكيًا كبيرًا فيه ما تبضّعته لغذاء العائلة من الخضروات.
قد لا يعلم أحد مقدار تعب هذه الأم إلا هي، لكن منظرها هذا، وعناق الصغير النائم لها، وأنفاسه على كتفها، يعدل الميزان الذي تمثله بكل ما فيه من أحمال.
أراحت تعبي أنا، وأجرت دمعي دون قصد مني، دمعة لهفةٍ لأمومة لم أحصل عليها.
ألا يستحق منظرٌ مثل هذا أن أُنجِب؟ أن أتحمّل تعب تسعة أشهر من أعراض نفسية وجسدية لن تطيقها لو عشتَ ساعةً من ساعتها؟
أنجبتك يا منية الفؤاد، لتكون هدية الرحمة عن كل قسوة صفعت قلب أمك.
أنجبتك لأنشد لك الأبيات المنسوبة لرابعة العدوية، فكلماتها لسان حالي:
يا سُروري ومُنْيَتي وعِمادي
وأَنِيسي وعُدَّتي ومُرَادي
أنتَ روحُ الفُؤادِ أنتَ رجائي
أنتَ لي مُؤنسي وشوقُكَ زادي
حُبُّكَ الآنَ بُغيتي ونَعيمي
وجَلَاءٌ لعينْ قلبي الصَّادي.
اضافةتعليق
التعليقات