في الأيام الأخيرة من حياة نبينا (صلى الله عليه وآله) توجّه إلى البقيع لزيارة أهل القبور، والاستغفار لهم، وبعد السلام عليهم قال هذه العبارة: "أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها، الآخرة شرّ من الاُولى".
يا له من تعبير مخيف ودقيق، حيث شبّه (صلى الله عليه وآله) الفتن بقطع الليل المظلم لشدة ظلمتها؛ ولتتابعها بلا انقطاع، وانتقالها من شرّ إلى آخر أشد منه!
لقد نظر النبي (صلى الله عليه وآله) من نافذة الوحي الإلهي إلى ما سيقع في أمته من فتن في المستقبل القريب، لاسيما تلك التي ستطال ذريته، وتحديدا خليفته ووصيّه الذي اختارته السماء، ولذا كان عليه أن يقوم بإجراءات احترازية لمواجهة تلك الفتن واحتوائها، ومع أنه كان متيقنا من وقوعها إلا إنه قام بما تمليه عليه مسؤوليته إتماما للحجة .
الإجراء الأول قام به النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن بدأ به المرض وهو التجهيز لسرية أسامة بن زيد؛ التي اهتمّ بها اهتماما كبيرا وأمر أصحابه بالتهيؤ لها، وبالغ في حثّهم عليها، وعبّأهم بنفسه، وأمّر عليهم أسامة بن زيد وكان شابا في مقتبل العمر وقال له: "سر إلي موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش ... " .
وأمره بالإسراع في المسير، وأعطاه جملة من الوصايا والتعليمات لضمان نجاح المهمة .
من الواضح إن هدف النبي (صلى الله عليه وآله) من تجهيز هذه السرية والحرص على سرعة تحركها ليس الحرب والفتح، إذ لم تكن هناك ضرورة ملحّة لهذا التحرك العسكري في ذلك الوقت خصوصا مع مرضه، وإنما كان هدفه إبعاد تلك المجموعة التي كان يتخوّف من وجودها في المدينة بعد وفاته؛ وحتى يضمن الانتقال السلس للسلطة إلى الإمام علي (عليه السلام) بدون مشاكل وشغب؛ وحتى يستتب له الأمر ولا ينازعه في حقه منازع، لأنه (صلى الله عليه وآله) كان واثقا أن أولئك النفر الذين كانوا يظهرون الرضا بولاية الإمام علي، ويبطنون الخلاف لن يقفوا مكتوفي الأيدي، وأنهم سيتآمرون، وسيعملون جهدهم على إزاحة الحق عن أصحابه الشرعيين .
كان رد الفعل الأول لكبار الصحابة هو اعتراضهم على تأمير أسامة عليهم بحجة أنه شاب وهم كبار في السن، وطعنوا باختيار النبي له؛ فغضب (صلى الله عليه وآله) من طعنهم واعتراضهم حيث خرج معصّب الرأس، مدّثرا بقطيفته، وقد اشتد به المرض، وصعد المنبر وخطب في الناس قائلا: "أيّها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله وايم اللّه إنّه كان لخليقا بالإمارة وإن ابنه من بعده لخليق بها" .
واستمر (صلى الله عليه وآله) يحثّهم على الإسراع في المسير ويردد مرارا وتكرارا:
" أنفذوا بعث أسامة" وهم متثاقلون، يسوّفون، ويتحججون بحجج واهية، وما أن خرجوا بعد إلحاحه الشديد حتى تسلّلوا عائدين إلى المدينة تحت جنح الظلام، عندما وصلتهم الأنباء باشتداد مرضه، ضاربين أوامره عرض الحائط غير مبالين بمخالفته وغضبه .
وقد علم النبي (صلى الله عليه وآله) بمخالفتهم ورجوعهم حيث أفاق من إغمائه وهو يقول:
"لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شر عظيم، فقيل له: وما هو يا رسول الله؟ فقال: إن الذين كانوا في جيش أسامة قد رجع منهم نفر يخالفون عن أمري، ألا إني إلى الله منهم برئ".
وعندما عاتبهم على عصيانهم لأوامره ورجوعهم، قال الأول: "إني خرجت ثم رجعت لأجدد بك عهدا" .
وقال الثاني: "يا رسول الله إني لم أخرج لأني لم أحب أن أسال عنك الركب" .
ولم يزل صلى الله عليه وآله يردد: " نفذوا جيش أسامة "، يكررها ثلاث مرات حتى أغمي عليه من التعب .
أما الإجراء الثاني الذي أراد النبي صلى الله عليه وآله القيام به فهو كتابة الوصية، فحين اشتدّ به المرض طلب كتف ودواة ليكتب للأمة كتابا لا تضل بعده أبدا؛ وعندما قام بعض الحاضرين ليحضر الدواة والكتف قال له الثاني: "ارجع فإنه يهجر" .
هذه الحادثة المفجعة والتي تعكس العصيان الصارخ للنبي (صلى الله عليه وآله)، والاستهانة به، والجرأة على مخالفته كان يسميها ابن عباس رزية يوم الخميس، وكان حينما يتذكرها يبكي بكاء شديدا ويقول: "إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب" .
من الواضح أن النبي كان يريد التأكيد على حديث يوم الغدير، وولاية الإمام علي (عليه السلام) وتوثيقها عن طريق الكتابة، وهذا ما فهمه ذلك الرجل فمنع من احضار الكتف والدواة، وبذلك حُرمت الأمه من الكتاب الذي يعصمها من الضلال .
وهكذا رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى جوار ربه حزينا أسفا، مشفقا على عترته من أمة انقلبت على أعقابها، فدفعتهم عن مقامهم، وأزالتهم عن مراتبهم التي اختارها الله لهم، وغرقت في لجج الفتنة المظلمة، ظلمة امتدّت بشراسة منذ يوم رحيله إلى يوم تشرق الأرض بنور حفيده وسميّه قائم آل محمد (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
اضافةتعليق
التعليقات