" لا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء" .
هكذا ردّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) - بغضب - على إحدى زوجاته عندما هاجت بقلبها مشاعر الغيرة، وذكرت السيدة خديجة (عليها السلام) بسوء!
لقد انطلقت هذه الزوجة في سلوكها المعادي من ضيق المشاعر لا من سعة التفكير بمصلحة الإسلام والولاء له، فكان عليها أن تحمل مشاعر الإحترام والإكبار لما قدمته السيدة خديجة (عليها السلام) من خدمات جليلة لدين الله، أو على أقل تقدير أن تكون مشاعرها محايدة قدر الإمكان، وأن تحترم ذكرى الزوجة الأولى في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله) ولا تؤذي مشاعره بالإساءة لها .
لقد فصّل النبي (صلى الله عليه وآله) في ردّه امتيازات السيدة خديجة (عليها السلام)، وصفاتها التي انفردت بها من بين نسائه، فقد آمنت بسيد بني هاشم محمد، وبالدور الذي سيناط به في مستقبل الأيام ذلك الإيمان الذي بدأ مبكرا، وعميقا؛ فقد كانت من الثلة المؤمنة الموحدة في مجتمع الشرك والوثنية، ومن المنتظرين للدعوة القادمة، المتطلّعين بلهفة لنور الرسالة، لذا سعت بكل إخلاص وثبات مبدئي لترتبط به فهو رجل الزمن الآتي؛ فاختارته أولا ليكون مضاربا لها في تجارتها، ومن ثم أبدت رغبتها الصادقة للاقتران به؛ حيث أرسلت إليه من يبلّغه رسالتها قائلة: "يا ابن العم قد رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك؟ ووسطك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك" .
وبعد الزواج، ومن منطلق إيمانها الراسخ به كانت تهيء له كل مايلزمه لخلواته الطويلة في غار حراء، وتصبر على فراقه، وتنتظره بشغف ولهفة الزوجة المحبة بلا تذمّر أو شكوى، بعدما لمست عن قرب ارهاصات النبوة، وبشائرها، وأول تلك الإرهاصات الرؤيا الصادقة، فكان( صلى الله عليه وآله) لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .
وبعد البعثة كانت أول المصدّقات به من البشر جميعا رجالا ونساء، ومكة مشحونة حوله بالكفر والعداء؛ وصلّت معه في فناء الكعبة على مرأى ومسمع من قريش وطغيانها غير خائفة ولا وجلة، ثم شاركته هموم الرسالة، ورحلتها القاسية المليئة بالأشواك، وتحمّلت معه المسؤولية بكل حب ورضا، واستعداد لا نظير له للصبر والتضحية.
أما عن مواساتها للرسول بمالها، وإنفاقها في سبيل الدعوة فكانت لها الكفّ العليا، واليد البيضاء، والسابقة التي لا يدانيها فيها أحد؛ فأنفقت ثروتها الطائلة، وسخّرت إمكاناتها المادية بسخاء ليس له حدود في نصرة الدين الجديد في وقت كان في أضعف حالاته، وهي من أثرى أثرياء مكة ولها تجارة واسعة وتجّار ومضاربون يعملون تحت إمرتها، وكانت تقول للنبي (صلى الله عليه وآله) بطيب نفس: "جميع ما أملك بين يديك وفي حكمك اصرفه كيف تشاء في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه".
ولقد استنزفت هذه الثروة الطائلة، وعاشت مع النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمين المحن العسيرة، وشظف العيش خصوصا أثناء الحصار الشرس الذي فرضته قريش بطغيانها وجبروتها على المسلمين، فغادرت الحياة صابرة محتسبة بعد أن استبد بها الضعف والمرض.
ومع كل امتيازات السيدة خديجة (عليها السلام) تبقى لها المزية الكبرى، والشرف الأعظم الذي لا يُقارن بغيره؛ فمنها لا من سواها من الزوجات رُزق النبي (صلى الله عليه وآله) الذرية، وفي بيتها المبارك سمع مناغاتهم، وحجرها الطاهر احتضن أبنائه القاسم والطاهر، والزهراء سيدة نساء العالمين؛ فصارت بذلك جدة الأئمة الميامين، ومنهلا سلسبيلا تتدفق منه أنوارهم السنية .
إنها السيدة خديجة (عليها السلام) الطاهرة، أفضل نساء أهل الجنة، والتي يباهي الله بها الكرام من ملائكته مرارا وتكرارا، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله):
"يا خديجة إن الله عزّ وجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا" .
فسلام عليها وعلى قرينها سيد الخلق أجمعين، وعلى زهرائها مشكاة النور، وعلى المصطَفَين من ذريتها الطاهرين مصابيح الظلام وسادة الأنام .
اضافةتعليق
التعليقات