تعتبر العلاقة بين الأب والإبن ومع بالغ الأسف من الأساسيات التي لا تثير جدلا كبيرا في مجتمعاتنا، ولا تحظى بالاهتمام الكبير مقابل الاهتمام الواسع بعلاقة الأم مع أبناءها.
ولكن علميا واجتماعيا لن يحصل التكامل التربوي إلا بعدما يأخذ الأب دوره الكامل في العملية التربوية ويشير علماء النفس بصورة خاصة للدور الرئيسي الذي يلعبه رب الأسرة في غرس القيم والسلوكيات الإيجابية في الأولاد وخصوصا الصبيان منهم، إذ أنه يحظى بحيازة البطولة في تصورات ولده ويشكل المؤثر الأقوى في زرع المفاهيم الحقيقية ونقل التجارب إلى عائلته.
ولأن الإسلام يمثل المنهج التربوي الأول في نقل السلوكيات السوية والتعاملات القيمية بين أفراد المجتمع، فلم يقصر في تقديم نماذج حية وأساليب عملية تبين طبيعة العلاقة التي يجب أن تبنى بين الأب وبين أولاده، ولعل النموذج الأقوى في هذا المجال هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فقد نجد دور الإمام واضحا وجليا في تربية الامامين الحسن والحسين، فرغم انشغاله الكبير في الحروب وفي شؤون الأمة إلا أنه استطاع أن يقدم دورا كاملا في صناعة شخصية أولاده، ولم تقتصر تربيته لهما على المنهاج النظري فقط، بل كان اعتماده الكبير على المواقف العملية أيضا لهذا نجد بأن الأمام كان يصطحب معه أولاده إلى أماكن متعددة ليتعلموا من تجارب الحياة ويستفادوا من المواقف التي تحصل في الواقع.
فالتعامل مع المواقف الصعبة والظروف القاسية تحتاج إلى البصيرة والحكمة والتي استطاع علي بن أبي طالب أن يزرعها في نفس أولاده من صغر سنهما وحتى بعد أن بلغا الكبر.
وما هو معروف في مجتمعاتنا بأن عملية التربية محصورة بفترة زمنية معينة أي أنها تنتهي بمجرد أن يبلغ الولد أو يجتاز عمر معين، ولكننا نجد خلاف ذلك في منهج علي بن أبي طالب، إذ إنه حرص على تقديم النصح إلى أولاده حتى اللحظات الأخيرة من حياته بل حتى وهو على فراش الموت وهم كبار في السن لم يمتنع أن يوصي أولاده ويوجههم إلى طريق الخير والصلاح.
ومن بعض الجمل التي وصى رائد الحكمة والبصيرة الحسنين (عليهما السلام) هي:
"أوصيكما بتقوى الله وألّا تبغيا الدّنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيءٍ منها زُوِي عنكما، وقولا بالحقّ واعملا للأجر، وكونا للظّالم خصماً وللمظلوم عوناً.
أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعتُ جدّكما (صلّى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البَيْن أفضل من عامّة الصّلاة والصّيام، الله الله في الأيتام! فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم.
والله الله في جيرانكم! فإنّهم وصيّة نبيّكم؛ ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم.
والله الله في القرآن! لا يسبقكم بالعمل به غيركم، والله الله في الصّلاة! فإنّها عمود دينكم، والله الله في بيت ربّكم لا تخلّوه ما بقيتم فإنّه إنْ ترك لم تناظروا، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله! وعليكم بالتّواصل والتّباذل، وإيّاكم والتّدابر والتّقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فيولّى عليكم شرارُكُم، ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم".
بداية ومع الظرف الزمني والمكاني الذي كان يعيشه الإمام في ذلك الموقف الصعب نستنتج ثلاثة أشياء:
١- أهمية التربية والتوجيه الأخلاقي والسلوكي الذي لا ينحصر بعمر معين.
٢- ليس هنالك مكان أو زمان محدد للعملية التربوية.
٣- عمق الإرشادات التي تحويها الوصية وأهمية الالتزام بها.
فلو نظرنا من زاوية أخرى وبصورة منطقية أكثر، نجد بأن أولاد الإمام علي (الحسن والحسين) اللذان هم إمامان أيضا لا يحتاجون إلى التربية، إذ إن الله تكفل بتربيتهم وأحسن نباتهم، ولكن ما الغرض من كل هذه الوصايا والمواقف العملية التي ينقلها الإمام لأولاده؟
في الحقيقة هذه الوصايا والتوجيهات التي تنقل من الإمام بهذا اللغة المباشرة والواضحة هي حجة للناس كافة، إذ إن هذا النقل التاريخي لأهل البيت (عليهم السلام) يمثل المنهاج التربوي والسلوكي والتوجيهي الأمثل على الإطلاق في العالم كله، وحتى يكون الأمر أكثر فهما وسلاسة استخدم الإمام الطريقة العملية في نقل التجربة لنا من خلال أولاده.
فعندما يقول الإمام لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه الوصية للناس كافة تشمل كل مكان وزمان، ليبين لنا بأن عدم الالتزام بهذا الأمر يلحق النتيجة الحاسمة ألا وهي تولي الشرار للأمور وعدم استجابة الدعاء.
فالكلمات التي قالها الإمام علي سواء في المجال العسكري أو التربوي أو السياسي جميعها تمثل مناهج عملية هدفها توضيح المسار الحقيقي للمجتمع الإسلامي وخلق حياة مطمئنة بين أفرادها.
فالإسلام قدم مناهج عملية ونموذجية في مجالات الحياة المتعددة، ولجوئنا إلى المناهج الغربية سواء في التربية أو التعليم لن يعالج مشاكلنا لأنها مناهج ناقصة وغير نموذجية ولن تستطيع معالجة الثغرات التي يعاني منها المجتمع.
لهذا السبب نجد بأنهم على الرغم من امتلاكهم مناهج تربوية متعددة إلا أنهم ما زالوا رقم واحد بالتفكك الأسري وسوء إدارة الأولاد، ولم تحقق عملية التوجيه عندهم أي نتائج فعلية.
في حين أننا نلاحظ بأن تأثير الإسلام واضح على السلوك التربوي في المجتمعات العربية أكثر من غيرها، بل ويستمر التوجيه والإرشاد حتى المراحل العمرية المتقدمة ويبقى الأب يوصي ويحاول توجيه أولاده إلى الخير والرشاد حتى آخر لحظات عمره، ويحاول أن يخلق علاقة حميمة بين أفراد عائلته، وللوصول إلى نتيجة مثالية وعلاقة مستقرة سنعرض بعض الخطوات الإسلامية التي تهدف إلى خلق علاقة صحية بين الأب وبين أولاده:
١- بناء جسر تواصل بين الأب والأولاد: يعتبر التواصل الودي وفتح مساحة الحوار مع الأولاد من الخطوات المهمة التي من خلالها يستطيع الأولاد طرح مشاكلهم والعوائق التي تواجههم في الحياة ومحاولة إيجاد الحلول المناسبة لها.
٢- منطقة الأمان: من المهم جدا أن يعيش الأولاد مع والدهم في منطقة الأمان، واأن لا يخافوا منه خوفا سلبيا ولا يتجنبوه إنما يكون الأب هو الملجأ الأول عند مرور الأولاد بأي مشكلة أو ظرف طارئ.
٣- الهيبة وقوة الشخصية: تلعب قوة شخصية الأب دورا كبيرا في بناء شخصية الأولاد، فمن المهم جدا أن يكون للأب هيبة في عائلته، ولكن الأهم هو أن يميز الأب بين مشاعر الهيبة ومشاعر الخوف النابعة من أولاده.
٤- قضاء وقت مشترك: إن قضاء الوقت يمنح الكثير من الخصوصية للأولاد أن يعبروا عن مشاعرهم الذكورية التي لا يستطيعون التعبير عنها للأم، إضافة إلى أن الوقت الخاص الذي يمنحه الأب لولده يشعره بقيمته وأهميته الكبيرة عند عائلته، وعلى أثره سيكون أكثر رحابة في استقبال الإرشادات التي يوجهها الأب له.
٥- التربية العصرية: لكل عصر لغات وأساليب تختلف عن العصر الذي سبقه، والتربية القديمة لا تجدي نفعا في ظل كل هذه التطورات الحاصلة في العالم، لذا تدارك الأب للغات العصر والأدوات التي من خلاله يستطيع أن يحاكي به عقل ولده يضمن له السيطرة أكثر على سلوكياته وأخلاقيته.
٦- تعزيز الجانب الديني: تبقى النقطة الأخيرة والأهم هو تقويم السلوك التربوي بالجانب الديني الذي غالبا ما يكون أثره أقوى على الأولاد من خلال تصرفات الوالدين، فالطفل يكتسب العادات من خلال مشاهداته اليومية، فإذا تربى في بيئة والده يكون صادقا كريما صائما من الصعب جدا أن ينحرف عن هذا المسار ويسلك مسارا أعوجا.
اضافةتعليق
التعليقات