أكتب هذه الرسالة إلى السيدة التي لم أعرف اسمها، تلك المرأة الأربعينية التي صادفتها يوم الثلاثاء، عندما ركبت إحدى الباصات العمومية للذهاب إلى الجامعة مثل كل يوم، كنت أعد اللحظات والثواني التي تمر عليّ، إذ لم يبق الكثير على موعد الامتحان وكان الباص فارغا تماما إلا مني ومن امرأة أربعينية تجلس هي وطفلها المعاق على كرسي مزدوج، ولأن الطريق من القضاء الذي أعيش فيه إلى الجامعة طويل نوعا ما وأنا لا أملك القدرة المالية لاستئجار سيارة تكسي لذا اضطررت أن أنتظر حتى يمتلئ الباص بالركاب.
وبعد مرور الدقائق، صعد الركاب واحدا بعد الآخر وبدأ الباص بالامتلاء، ولكني بدأت اقلق أكثر فأكثر وبدأت ملامح التوتر تبين على وجهي إذ إن كل الذين ركبوا الباص كانوا شبابا وأنا الفتاة الوحيدة بينهم، هل لأحد أن يتخيل منظر فتاة بعمر العشرين وحدها بين حشد من الشباب في الباص!
كان وضعا محرجا وصعبا عليّ خصوصا وأنا أعيش في مجتمع يحوي الصالح والطالح والذئاب البشرية فيه تتقنص هذه الفرص لتنال من الفريسة، إذ إني لم أسلم من نظراتهم وهمساتهم، تسارعت نبضاتي وكأني في ماراثون للركض، كاد أن يخرج قلبي من مكانه عندما شاهدت شابا سمينا ذو ملامح لا توحي بنية سليمة يتقدم نحوي ويريد الجلوس في المقعد الذي أجلس عليه، برمشة عين أسرعت نحوي تلك المرأة وسبقت الشاب وجلست بجانبي تاركة طفلها المعاق وحده، بانت على ملامح الشاب الاستياء والغضب، واتجه مضطربا نحو المقعد الوحيد الفارغ في الباص وجلس بجانب الطفل المعاق.
أنقذتني تلك المرأة بفعلتها تلك، فقد تركت طفلها المعاق وحيدا وجلست بجانبي لتنقذني من نظرات الركاب ومن مضايقات ذلك الشاب السمين الذي وحده الله يعلم ماذا كان يحمل في نيته...
تحرك الباص، وبين محطات متفرقة كان يتوقف السائق لينزّل الركاب في مقاصدهم، ولكن لا أحد تزحزح من مكانه وبات واضحا بأن مقصدهم أطول طريقا من مقصدي، وعندما وصلنا إلى الشارع المؤدي إلى المستشفى الحكومي نادى السائق: (أيتها الحاجة لماذا لم تنزلي!، إنها المشفى إنه مقصدك يا حاجة)
ردت عليه: (غيرت رأيي سأقصد مكانا آخر).
من الواضح أنها كانت تريد أن تأخذ طفلها إلى المشفى، لكنها لم تتزحزح من مكانها وبقيت جالسة بجانبي، ربما فكرت لو نزلت سيجلس أحد الركاب بجانبي ويقوم بمضايقتي أو سيعود الشاب السمين... الخ).
لقد كان فعلا عظيما بالنسبة لي، قلت لها بصوت أشبه بالهمس خوفا من أن يسمعنا أحد: "والمشفى؟" قالت لي بابتسامة رسمت الطمأنينة في قلبي: "لا تهتمي سأعود بباص آخر".
وصلت إلى الجامعة، نزلت من الباص ودعتني المرأة بابتسامة وعينان تحمل في طياتهما الكثير من الطمأنينة والأمان...
سيدتي العظيمة ربما قد يجد الكثير بأن تصرفك كان عاديا إنما أنا وحدي التي أجد ما فعلته معي كان كبيرا جدا لأنني كنت ضحية الموقف لا هم، أكتب هذه الكلمات لك في حال كنت تقرئينها، إذ لم يسعني حينها أن أشكرك على ما فعلته معي، لقد منحتني الأمان كله في وقت كاد أن يتوقف قلبي من شدة القلق والخوف، تجسد الخير كله في تصرفك، فقد منحتني الأمان الذي أشعر به في وجود أبي فقط، أرجوكِ ابقي دائما عظيمة واملئي الدنيا خيرا..
اضافةتعليق
التعليقات