كلام بتنا نسمعه من بعض الشباب وهو: إننا ما خلقنا إلا للشقاء والعذاب! معللين ذلك بما يعيشونه في حياتهم الشخصية أو المجتمعية، إذ يعتقدون أنهم خلقوا ليَعيشوا ما بين عقابين، ابتلاءات دنيوية، وعذابات أخروية؟!
وللمتأمل في الكلمات النورانية التي وردت في الخطبة الفدكية لمولاتنا الصديقة (عليها السلام) التي تقول فيها: [وَوَضَعَ العِقابَ عَلى مَعْصِيِتَهِ، ذِيادَةً لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وَحِياشَةً مِنْهُ إلى جَنَّتِهِ]. سيجد فيها جوابا شافيا، ففي حدود فهمي لما ورد من إشارات:
أولاً: إن الصديقة (عليها السلام) تُبين مفهوم أصل وضع العقاب للإنسان، بقولها: (وَوَضَعَ العِقابَ عَلى مَعْصِيِتَهِ)، فهو ليس عام، أو من دون سبب أو مقدمة!! وإنما هو من بعد الإنحراف عن مسار الحق، ومن يتعدى حدوده الإنسانية كظلم نفسه أو غيره سواء من بني جنسه أو مع أي مَخلوق خُلق.
ثانياً: إن العقاب الذي وضع من الله تعالى لا ينبع من أن الله تعالى يمارس سلطته وهيمنته وإنتقامه مع خلقه، وإنما هي كما بينت الصديقة (عليها السلام) في قولها: (ذِيادَةً لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ)، أي لحمايتهم ودفعهم عن كل ما يجلب لهم الشقاء، ويوجب لهم النقمة والعذاب.
فمن الجيد إلفات النظر إلى إن الله تعالى يعاقب ليس إنتقاما لذاته -حاشاه سبحانه وتعالى- أو لكون العصيان صدر من العبد تجاه أوامره!. فهو جل وعلا غني عن طاعة أو عصيان أحد من مخلوقاته، وإنما وضع العقاب لأن العبد بعصيانه يحيد عن طريق سعادته الذي رُسم له من خلال السير على المنهج الإلهي، فإن لم يفعل يُشقي نفسه بنفسه في الدنيا، ثم يستحق العقاب كجزاء في الأخرة لما أوقع به نفسه، والإنسان بطبيعته لا يرتدع إلا بالتخويف، ولا يستقيم إلا بكثرة التنبيه. أما الذي يسير في طريق الحق، والامتثال والطاعة لربه، فهو بذلك يحقق سعادته وفوزا في الدارين.
ثالثاً: كما وقد بينت الصديقة (عليها السلام) علة أخرى لوجود العقاب بقولها: (وَحِياشَةً مِنْهُ إلى جَنَّتِهِ)، فما اعظمه من تعبير أي أن الله تعالى يحذرهم بوجود العذاب ليصرف نظرهم إلى الجنة، ويسوقهم إليها سوقا.
لذا يُمكن أن نعالج هذا التصور الذي يتبناه بعض الشباب بدأً بالسعي لتعريفهم بصفات الخالق وأفعاله الجمالية والجلالية، لرفع هذا الشبه والإشتباه الذي وقعوا به، وكذلك السعي لإفهامهم سبب وجودهم في هذه الحياة، التي هي دار إبتلاء وإمتحان، فيها كدح وتعب للأبدان، والراحة لا تكن إلا في الجنان (القلب)، عبر السكينة وتحصيل الرضا والإطمئنان.
إذ إن هذان الأمران إذا لم يَعرفهما الإنسان بشكل سليم يُشكلان صورة سلبية، ونظرة قاتمة عن الخالق سبحانه، وعن النفس، وعن الحياة كلها بشكل عام.
فيسجن نفسه في هذا الإطار، فلا يسمح لها أن تنطلق نحو الحق، وتُهِد قواه المعنوية فلا يتمكن من التحرك في طريق الخير، فيصبح غير قادر أن يُحسن الظن بخالقه، وبالتالي كل خطواته التي يخطوها لن تُنتج إلا عكس ما يتمنى ويريد، ثم يبرر خيباته بأن الله تعالى خلقه ليشقيه ويعذبه، وفي الحقيقة هو مصداق لقوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (فصلت:23
اضافةتعليق
التعليقات